جور نار

الإذاعات إلى أين ؟

نشرت

في

لعلّ من الاسئلة البديهيّة التي تُطرح الان في المشهد السمعي … كيف اصبحت اذاعة اليوم ؟ هل مازالت تلعب نفس الادوار التي كانت تلعبها من قبل ؟ وخاصة ماهو مستقبلها امام عديد المتغيرات ؟

<strong>عبد الكريم قطاطة<strong>

دعوني في البداية ارجع بكم الى اذاعة القرن الماضي كيف كانت وما مدى تاثيرها على المتلقّي …سانطلق من تجربتي الخاصّة كمتلقّ ثمّ كفاعل … كمتلقّ كنت طفلا صغيرا لم يتجاوز عمري التسع سنوات عندما اكتشفت ذلك الكائن السحري: المذياع، عند الجيران … نعم هو كائن سحري …فتكنولوجيّا لم اكن افهم كيف يأتي صوت من صندوق عجب … والحمد لله انّي لم انزلق في محاولة الفهم …

لانّ تلك المحاولة تفسد عليّ لذّة المتعة ..فالواحد منّا عندما يستمع الى موسيقى رهيبة حتما سيفسد لذّة الاستمتاع ان دخل في خانة البحث عن مقامها أكان في مقام الاصبعين او السّيكا ..او كذلك الذي يرى امرأة جميلة فيحاول البحث عن مواطن الجمال فيها هل هو متأتّ من انفها او من لون عينيها او من تكوّر جسدها …هذا عندي نوع من العبث والعبثية …الجمال في رشفته الاولى جمال وفقط …..فاملأ الكأس بالغرام وهات …قبل ان يبدّل الحبّ دارا ..والعصافير تهجر الاوكار …سوف تلهو بنا الحياة وتسخر… فتعالَ احبّك الان اكثر . …

وكما قال جورج جرداق في رائعته هذه ليلتي …ملأت كأسي بغرام المذياع وبسحره وبعض السحر حلال … وبدأت رحلتي كمتلقّ بل كعاشق حتّى الثمالة …كان زمن العروي والسيدة علياء وما ادراك ..وكان زمن اختبر ذكاءك وتحيّة الغروب في رمضان والصوت العذب للكبير عادل يوسف ..كان زمن الحاج كلوف وشاناب …وكان الصباح لا يكون صباحا الا بصوت الشحرورة نجوى اكرام رحم الله من مات منهم …

وتطوّرت علاقتي وانا في بداية شبابي مع اذاعات اخرى ..اذاعة صفاقس في بداياتها واذاعة الشرق الاوسط واذاعة صوت العرب من القاهرة واذاعة لندن وصوت ذلك الكبير منير شمّا …هذا المخزون الذي نما بداخلي وانا متلقّ عاشق لسحر الاذاعات يمكن حوصلته في كلمات … ذوبان عاطفي دون جانب نقدي تحليلي ..اي ( من غير ليه ) ..

المنعرج الاوّل في علاقتي بالاذاعات كان في سنوات متقدمة من شبابي وبالتحديد في اواسط السبعينات عندما غادرت تونس لادرس بباريس العلوم السمعية البصرية …وهنالك كان لعامل دراسة هذا الميدان تأثير كبير على نحت معالم الفكر النقدي عندي لأيّ عمل سمعي بصريّ، ثمّ اكتشاف انماط جديدة من العمل الاذاعي كمتلقّ للاذاعات الفرنسية انذاك ..اوروب 1، ار تي آل وفرانس انتار على وجه التحديد ….كانت بالنسبة لي الصدمة الجميلة …لأنّ تلك الاذاعات ايقظتني من غفوتي …

يااااااه كم كان الفارق رهيبا بين ما تسوّقه لنا الاذاعات المحليّة والعربيّة عامة، وبين عالم اذاعي غربيّ مختلف تماما شكلا ومضمونا …وكانت النقلة النوعية في علاقتي مع ذلك الصندوق عجب …حطّمت قاعدة: املأ الكأس بالغرام وهات …اصبحت ملحّا لجوجا على معرفة ما يحتويه الكأس لانّ الفارق كبير بين كأس يحمل “المرناق” وآخر يحمل الشيفاس ..وهذه يفهمها آل ابي نواس …وفي رواية اخرى اصبحت ارفض الذهاب الى مواطن السحر و انا مغمض العينين …وعفوا يا بشار ..الاذن لا تعشق قبل العين احيانا …

قلت لكم سلفا انّ النقلة النوعيّة الاولى جدثت لي اثناء دراستي بفرنسا، لكن النقلة النوعية الكبرى حدثت لي عندما شاءت الاقدار ان اجد نفسي يوما امام المصدح كفاعل هذه المرّة لا كمتلقّ …في نهاية 1979 باذاعة صفاقس ـ يُتبع ـ

(الخميس المقبل: الحلقة 2 من “الإذاعات الى أين؟”)

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version