برنامج “نهج التريبونال” حصّة إذاعيّة يقدّما الفنّان المسرحي و الممثّل القدير محمّد السيّاري على موجات الإذاعة الخاصة IFM. و المستمع إلى هذا البرنامج ينتبه إلى مجموعة من التفاصيل التي لا تغيب عن المتابع النّبيه للإذاعة، و أعني الكتابة القصصيّة للأحداث التي تجعل منها بالفعل شريطا سينمائيّا أو تلفزيّا … فالصور تمرّ في مخيّلتنا إنسيابيّة بدرجة كبيرة، تضاف إليها المؤثّرات الصوتية المناسبة لتجعل منها بالفعل مشاهد ترى وتسمع ، كما يشدّ البرنامج إليه المستمعين بطريقة الإلقاء التي يعتمدها محمّد السيّاري و هي لنقلْ و دون مبالغة الطريقة الصّحيحة لسرد أي نصّ إذاعي من هذه الشاكلة بكلّ ما في ذلك من تعبير عن الإنفعالات و الحالات النفسيّة للشخصيات التي تضمّها الأحداث في القصّة.
و بالرجوع إلى فترتيْ الستينات والسبعينات من القرن الماضي و في نفس المحور تقريبا أي ألغاز الجرائم و الجنح و الجنايات و ما يلتصق بها من عمليّات التقصّي و البحث و التدقيق لتحديد المخالفين للقانون بقوّة الحجّة و الأدلّة المادّية، أستحضر واحدا من البرامج الرائعة التي كانت تبثّ على أمواج الإذاعة الوطنية ألا و هو برنامج “صور من الحياة ” للإذاعي الكبير الراحل بوراوي بن عبد العزيز … و هذه الحصّة الأسبوعية التي أثّثت السهرات الإذاعيّة كانت تتضمّن مسامع تمثيليّة مستوحاة من قصص حقيقيّة تتعلّق بجريمة يتبعها نقاش قانوني راق يتناول فيه الضيوف أطوار الجريمة و حيثيّات البتّ في القضيّة و اجتهادات القضاة و مرافعات المحامين و الفصول القانونيّة التي اعتمدت لإصدار الحكم …
و كان المستمعون يراسلون البرنامج و يبعثون بآرائهم و اجتهاداتهم في تحديد معالم مرتكب الجريمة من بين الشخصيات التي وقع تجسيمها في المسامع التمثيليّة و تفسير الأسباب و الدوافع و الأحكام المناسبة … فالبرنامج يدفعهم إلى الاطّلاع على مختلف المجلّات القانونيّة و استخراج الفصول التي لها علاقة بالقضيّة موضوع الحصّة و المستمع الذي تكون إجاباته أقرب إلى حقيقة الأشياء هو الذي يفوز بالجائزة التي لم تكن بالملايين و لا حتى بالآلاف بل كانت مجموعة من الكتب أو اشتراكا في صحيفة أو مجلّة … و قد روى لي المرحوم بوراوي بن عبد العزيز أنّ الزعيم الحبيب بورقيبة الذي كان مستمعا جيّدا للإذاعة و مولعا ببرامجها و محبّا للعاملين فيها، عادة ما يثير معه في لقاءات بينهما في قصر قرطاج مسائل قانونيّة دقيقة تتعلّق بمحتوى قضيّة تعرّضت لها الحصّة و يبدي رأيه في أطوار القضيّة و الأحكام الصادرة.
و في ذات السياق أنتجت الإذاعة في ذات الفترة أيضا برنامجا مماثلا في التصوّر لكن يختلف في المضمون والمحتوى و هو برنامج تفاعلي بامتياز تعطى فيه الفرصة للمستمع حتى يبدي رأيه في الموضوع المطروح و يهتدي إلى الإجابات الصحيحة بعد أن يكون قد استمع إلى البرنامج في كلّ تفاصيله … عنوان البرنامج هو “اختبر ذكاءك” من إعداد و تقديم الراحلين محمد بن علي و حبيب بالحارث، و هو عبارة عن قصّة مُمثلة معقّدة أحداثها و متداخلة على غرار قصص الكاتبة البريطانية أغاثا كريستي، و فيها من الغموض ما يستدعي فطنة المستمع و نباهته للتوصّل إلى فكّ رموز اللّغز أو الألغاز التي جاءت في المسامع التمثيليّة … لقد كانت الإذاعة الوطنيّة تزخر بهذه النوعيّة من البرامج ذات البعد التفاعلي و التي لا تكتفي بإعطاء معلومات بل تساعد المتلقّي على فهم أوسع لمحيطه و تزرع فيه روح البحث و التعلّم و تُكسبه ملَكة الكتابة، و تعطيه مجالا للإبداع من خلال التعبير و المشاركة الواعية …
و إنّي لأجد في هذه النوعية من البرامج تجسيدا فعليا لمقولة الإذاعي الفرنسي الشهير Claude Villers و الذي سبق له أن أنتج للإذاعة الفرنسية من بين ما أنتج و قدّم حصّة إذاعية ساخرة عنوانها محكمة الأوهام الكبرى و جاء فيها..” لم تعد أنت الذي تستمع إلى الإذاعة بل إن الإذاعة باتت تستمع إليك” Ce n’est plus vous qui écoutez la radio, c’est la radio qui vous écoute. و هذه الكلمات تلخّص بالفعل دور الإذاعة أو على الأقل جانبا مهمّا من دورها …
و اليوم و مع الأسف لم يعد كل ما يذاع يصلح أن نطلق عليه حصّة إذاعيّة، و ليس كل ما يقال داخل تلك الحصص يستجيب لقواعد المحتوى الإذاعي.