الإرهاب يُعشّش في ثكنات العقل… أكثر من ثكنات الأمن والعسكر !
في مدلولات بعض ردود الأفعال إزاء ما حصل في كنيس الغريبة بجربة
نشرت
قبل سنتين
في
أصبح من المؤكّد أنه لم يبق جهاز واحد تابع للدولة أو مؤسسة واحدة في تونس، صمدت في وجه أمواج الاختراق العاتية التي مارسها الإسلام السياسي عندما أمسك بالسلطة بعد 2011 وكانت له اليد الطّولى في التعيين والتجميد والتمديد والتعويض والدّمج والعزل والانتداب والعفو التشريعي وتمرير قوانين وتعطيل أخرى، فزُجّ بآلاف المتطرفين والدمويّين صلب الإدارة العمومية والمؤسسات المختلفة وأُعيد الاعتبار للملطّخة أياديهم بدم الأمنيين والعسكريين والمدنيين الأبرياء ولُمّعت صورة مجرمين ومتحرّشين ومُغتصِبين وسرّاق ومتحيّلين ومرضى نفسانيين سابقين… تحت يافطة ضحايا الاستبداد والاضطهاد.
هذا التّفخيخ المدروس يجعلني شخصيا لا أستغرب مطلقا من وجود “عقول” منظِّرة للتفجير ونفوس توّاقة إلى التّلغيم، في كل الزوايا والمنعطفات بما فيها المواقع التي نحسبها بمنأى عن الأدلجة وأقرب إلى الحياد والولاء اللامشروط لتونس ذات الهويّة الخالصة والخالية من السّموم الهوويّة الطارئة مهما كانت … وإلا لما رأينامعلّمة تُفتّش في عقول الناشئة بحثا عن وليّ لا يصوم رمضان، أو أمنيا يذبح زميله ويسطو على ذخيرته، أو إداريا يُسرّب وثائق المرفق الذي يعمل ضمنه إلى جهات عميلة مكلفة بأدوار مشبوهة … (وهؤلاء جميعا لا يمثلون من حيث كثافتهم العددية نسبة عالية لكنهم يشكّلون خطرا داهما، لأنه تبيّن ميدانيا أن جبانا واحدا من ضمنهم له من القدرة على ضرب صورة بلد قضى رجال آخرون عهودا وأجيالا وقرونا لبنائها وتشييدها… ونقولها للمرة الألف إن السطو على سلاح وإطلاق النار في كل الاتجاهات ليس عملا بطوليا بالمرة، بل هو عمل دنيء وجبان أقدمت عليه بعض القِردة عندما استولت صدفة على أسلحة رشّاشة).
قراءة في بعض ردود الفعل إزاء ما حصل في جربة :
أولا : تنديد بطعم الشماتة والتشفّي
أعتقد بشكل راسخ أن كل من صفّق للنّاتو وطائراته الحربية تدكّ المدن والقرى الليبيّة، وكل من استعمل ظهر تونس لتمرير الأسلحة القطريّة والتركيّة نحو الجارة عبر جرجيس، وكل من دعا إلى سفر أكباد تونس الغضّة نحو بؤر الموت والذبح في سوريا، وكل من سارع إلى طرابلس ليُداعب صواريخ الإرهاب وكأنه طفل يلامس لعبَهُ المحبّبة يوم العيد، وكل من قال “دموع الأمهات التونسيات المشويّات على سفر أبنائهن إلى مواقع القتال في الشام أهون من ألم أمهات سوريا اللواتي هن بحاجة إلى من يساندهن ويشدّ أزرهنّ ضد نظام بشّار القاتل”، وكل من ترك عملية الغريبة الارهابية الأخيرة جانبا وراح يبحث عن “مواطن تقصير الدولة التونسية” ليندّد بالتباطؤ في التفاعل الاتصالي أكثر ألف مرة من تنديده بالغدر والخيانة اللذين مارسهما أمنيّ بائس، وكل من قال “وداعا موسم السياحة الذي راهن عليه قيس سعيّد” في خلط يبعث على الغثيان بين “الحاكم اليوم” وبين “تونس الأبدية” … كل هؤلاء حسب اعتقادي لا يحقّ لهم الخوض بالموضوع أصلا أو التظاهر بالتباكي على تداعيات ما حدث لأنهم تماسيح سياسة، سينتهون من هذه الكبوة الزائلة ليفتحوا مغارس أسنانهم انتظارا لكبوات أو أزمات أخرى هم أعرف الناس بتوظيفها في البكاء والنحيب على “بلاد داخلة في حيط” و”اقتصاد مهدّد بالانهيار” إلخ…
ثانيا : من لا يقدر على التمييز بين الصهيوني واليهودي يُضرّ بتونس وتخسره فلسطين
يكفي أن تطّلعوا على تعليقات تونسيين وعرب إزاء الاعتداء الإرهابي في جربة، حتى تتيقّنوا أن خلطا جهنّميّا متعمّدا مصبوبا بشكل إسمنتي مسلّح في عقول أبنائنا للإيهام بأنه لا فرق بين يهودي وصهيوني إلا يموقع التواجد في ساحة العالم اعتمادا على أفكار نبتت في سياق غير السياق مثل “لتجدنّ أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشرَكُوا” أو “لا تقومُ السَاعةُ حتَّى تُقاتِلوا اليهودَ، حتَّى يقول الحجَرُ وراءَهُ اليهودِيُّ: يا مسلِمُ، هذا يَهودِيٌّ وَرائي فاقْتُلْهُ”. وحتى نتيقّن أيضا من أن حركة فكرية وثقافية ودينية طويلة المدى لا مناص منها من أجل تطويق كل هذه الفوضى “الشرعية والتشريعية المتلبّسة بالدّين والمقدّس” وتخليص الفكر السائد من كمّ كبير من العدوانيّة والخلط بين العصور والأزمان وبين السياسة والأديان. (انتبهوا في هذا السياق إلى مبادرة الدولة السعودية اليوم إلى مراجعة المدوّنة الحديثية الضخمة والاكتفاء بمائة حديث ثابت والأكثر تواترا فقط من جملة آلاف الأحاديث، بهدف إلجام رجال الدين والمؤسسات الدينية الرسمية عن تكفير كل مخالف لها.)
فكيف نفسّر مثل ردود الفعل التالية على صفحات الفايسبوك من تونسيين تُستباح بلادهم ويُقتل إخوانهم ويُضرب اقتصادهم ؟
“هذه بدعة أخرى : أول مرة نسمع بالحج في تونس”
أو “من مساوئ السياحة والاحتكاك مع الاجانب يفقد اهل البلد تقاليدهم وقيمهم”
أو “إن الدين عند الله الاسلام”
أو “لأنه ليس لهم قبلة ولا حج فاخترعوا مكانا للحج”
أو “أين المشكل، هذا هو التطبيع الحلال”
أو “الحج هو حج بيت الله في مكه ولا حجّ سواه”
أو “فقط للتذكير…انو هناك عشرات الشهداء في غزة…و برشا ناس ماتنجمش تتحكم في تصرفاتها وما تفرقش”.
أو كذلك “هذا من تدبير مخابرات تونس..حتى يقنعو العالم بأنهم يحاربون الإرهاب . بمعنى الإسلاميين”
إلخ…
أليس هذا تعاطفا صريحا وضمنيا أحيانا مع الإرهاب ؟ أليس هذا إنكارا جاهلا وقميئا لواقع تاريخي لا علاقة له بفلسطين والنضال ضد الكيان الغاصب، وهو أن التونسيين لهم إخوة لا يدينون بالإسلام تواجدوا على هذه الأرض وبنوْا معبدا عمره أكثر من 2500 سنة أي قبل مجيء الإسلام بقرون طويلة ؟ ولماذا يتعامون عن كون المتأسلمين المؤيّدين لاستراتيجيات الاحتلال أكثر عددا من اليهود التونسيين المساندين لدولة التشريد والقتل والمذابح التاريخية ؟ ألم يستقبلوا ماك كاين وأولبرايت بمشروعهما الاحتلالي والتوسعي المبين بالأحضان ؟ ألم تحتضن المستشفيات الاسرائيلية جرحى جبهة النصرة وأنصار الشام الإسلامية أثناء المواجهات مع الجيش السوري ؟ ليعلموا أن فلسطين استشهد من أجلها آلاف المناضلين الصادقين من كل أنحاء العالم وكيان الاحتلال أيّده صهاينة من زوايا الأرض الأربعة.
ثالثا : ناتنياهو والفرنسيس والأمريكان والألمان، تعاطفكم الكاذب وتعازيكم الماكرة نحن في غِنًى عنها !
قال ناتنياهو إبّان العملية “حزنت لسماع نبأ مقتل اثنين من أبناء شعبنا في هجوم على مدخل كنيس في جربة بتونس … بالنيابة عني وعن حكومة إسرائيل أتقدم بأحر التعازي لعائلات القتلى”
وأكد المتحدث باسم الخارجية الأمريكية “نستنكر الهجوم الذي وقع في جربة ونُعرب عن تعازينا للشعب التونسي ونُثني على التحرك السريع لقوات الأمن”.
أما الموقف الألماني، فاعتبر “غدرة” جربة الأخيرة “عملية تملؤنا بالفزع والحزن العميق وملتزمون بحماية الحياة اليهودية في تونس ومكافحة معاداة السامية وأي شكل من أشكال التمييز في جميع أنحاء العالم…”
لهؤلاء نقول تِباعًا إن المواطنين اليهود التونسيين ليسوا مواطنيكم يا من تشكّل “شعبكم” من شتات هجين قدِم من كل أصقاع العالم ووطّنتموه بقوة الدبابات والجرّافات فوق أرض ليست أرضكم، وأن الثّناء على التحرك السريع لقوات أمننا لا يمكن أن يُنسينا تحرّك قوات أمنكم وجيشكم في كل العهود لقهر الشعوب وإسقاط الأنظمة الوطنية وتدعيم العملاء والخونة، وأن حماية الحياة اليهودية في تونس هي من أنظار الدولة الوطنية التونسية دون سواها… كما نقول لهم في النهاية إن الهولوكوست ليست كلمة عربية وأن العرب ليسوا من أسّس مراكز شلمنو وأوشفيتز ولوبلن للتنكيل بملايين اليهود عبر التاريخ.