“الإيبيجينيتيك” في خدمة النجاح المدرسي … أو كيف نَكسِر الحتميّات الجينيّة؟
نشرت
قبل سنتين
في
علم “ما فوق الجينات” أو “علم التخلّق” (الإيبيجينيتيك) هو حقل علمي ناشئ وهو اليوم بصدد احداث تغييرات جوهرية في عديد المجالات وخاصة في المجال الطبّي الوقائي والعلاجي.
وعلى فهمنا لنموّ الطفل ومنسوب ذكائه وحظوظ نجاحه في الوسط المدرسي. علم الجينات يدرُسُ آليّات نقل طِباعنا وخاصيّاتنا جيلا وراء جيل عبر سلسلة الحمض النووي ADN بينما تتكفّل المسارات ما فوق الجينيّة بوضع علامات على “نظام الاشتغال المركزي” وهو الـ ADN أو على أطرافه لتكون قادرة تماما على إحداث تغييرات في كمية “الوسائل الحيوية” التي تُنتجها الجينات.
عندما نقرأ أن بعض الدراسات العلمية الموثوقة تُقرّ بأن ثلثيْ النتائج المدرسية أو على الأقل الأعداد المتحصّل عليها (حوالي 62 % ) يمكن تفسيرها بواسطة “الإرث الجيني للتلاميذ” وأن هذه النتيجة مقترنة في نفس الوقت بما توصّل إليه من تأكيد حقيقة علمية أخرى وهي أن تأثير الذكاء على القدرات الدراسية لا يتجاوز 13 % في كل الحالات…فإن السؤال يظلّ مطروحا بحدّة : اذا لم تفز العوامل الوراثية بكامل حصّة التأثير في سلوك الأطفال خاصة وطِباعهم وأمزجتهم وأدائهم المدرسي الخ… تاركة الفرصة لعوامل أخرى لاحقة قادرة على تصويب ما أفسدته “التّركة الجينيّة” ، فما هي هذه الجينات المسؤولة عن “التعديل والتدارك والتصويب” وقهر الوراثي الذي لا نتحكّم فيه ؟ !
الباحث البريطاني كونراد وادينغتون هو أول من تحدّث عن هذا الحقل العلمي الجديد وأطلق عليه علم ما فوق الجينات سنة 1942 Epigenetics والذي اشتغل ضمنه على “دراسة الآليات التي بواسطتها يتم التفاعل بين الجينات والمحيط لخلق الخاصيات الفيزيولوجية والمورفولوجية للفرد”.
إذن يمكن القول بأنه ليس كل شيء محدّد مُسْبقًا في ضرب من القدريّة المُشلّة للحركة والداعية إلى القبول بالمكتوب “حمضيا في جيناتنا” ! وهذا في حدّ ذاته كسب تاريخي ثمين للبشرية حسب اعتقادي لأنه يؤسّس لهامش كبير من الحرية والمسؤولية في ذات الوقت تجاه صحّتنا وصحّة أبنائنا وتجاه أدائنا بصورة عامة وأداء أبنائنا في كل المجالات الحياتية.
أفضل تعريف مُقنع وطريف لعلم ما فوق الجينات عثرت عليه لدى الباحث الفرنسي من أصل موريسي جويل دي روناي Joël de Rosnay من خلال سلسلة طويلة من المحاضرات والمداخلات التلفزية حول الموضوع. يقول :
“الابيجينيتيك تعني ما فوق علم الوراثة الكلاسيكي أي ما فوق سلسلة الحمض النووي ADN التي تُشكّل كل برنامج حياتنا، وهي التي تحدد كل ما نفعل، بينما الابيجينيتيك هي إمكانية أن نُعدّل طريقة اشتغال جيناتنا وتصرفها عبر سلوكياتنا نحن البشر. بمعنى أن الجينات هي عبارة عن أدراج مُقفلة بإحكام بواسطة مفاتيح ومُرصّفة فوق بعضها البعض وتحتوي على الرموز الجينية وكل البرامج التي تتحكم بحياتنا. ولكن من خلال سلوكاتنا وتحرّكنا في المحيط نستطيع أن نزرع أو نحقن داخل أجسادنا جُزيئات molécules des ستتصرف وكأنها مفاتيح لمعالجة هذه الأدراج والولوج إليها (أو تركها موصَدة) والتي تحتوي على وصفات لتجهيز الأطعمة (كأنها مطبخ، إذا أنت لم تتمكّن من فتح الدّرج الذي يحتوي على وصفة طهي البيتزا على سبيل المثال فلن تتعلّم أبدا إعداد طبق البيتزا ) لصنع أنزيمات أو بروتينات تتحكم باشتغال كل حياتنا. وبالتالي فإن الإيبيجينيتيك هي نوع من تحميل المسؤولية للفرد ذاته أمام ما يحدث له بدنيّا وحيال المحيط أو المجتمع الذي يعيش داخله”.
اللافت في هذا الخطاب الجديد نسبيا هو تعبير “نحن نستطيع” ولسنا محكومين بحتميات جينيّة قاهرة. فمن خلال سلوكنا يمكن تغيير طريقة اشتغال خلايانا وتصرّفات جيناتنا اعتمادا – حسب دي روناي- على خمس عناصر كبرى هي :
التغذية والحركة البدنية المعتدلة والقدرة على التصرف في الضغوط ومتعة ممارسة ما نفعله والعلاقة مع المحيط الاجتماعي والعائلي والمهني المتناغم مع هذه العناصر كلها… وعلى هذا النحو نحن نقوم يوميا بحقن جُزيئات تفتح الأدراج المغلقة وتُنشّطها (أو تثبّطها وتتركها في سُباتها في حالات الضغط العالي أو الخوف الماحق أو الظروف القصوى بصورة عامة).
ومن أجل تقريب الصورة إلى أذهان الناس، يعطي هذا الباحث مثال السمارتفون الذي نقتنيه بنظام استغلال OS مُدرج فيه عند الصّنع (وهو بمثابة الــ ADN) ولكن بعد شرائه نجد أنفسنا مطالبين ــ كل حسب حاجياته وميولاته وانتظاراته من السمارتفون- بتنزيل تطبيقات رديفة تحوم في فلك نظام الاستغلال الأصلي وتطوّعه لنظام اشتغالها الخاص… هكذا تتعامل الجينات مع الـــ ADN).
يقول طبيب الأعصاب ليونيل نقّاش في هذا السياق تحديدا “ما هو طريف حقا هو أن علم الوراثة كنا نتخيّله إكراها حتميّا لا نقدر على شيء تجاهه، ولكن مع نتائج العلوم الحديثة اكتشفنا أن الجينيتيك هي نفسها تحت رقابة إكراه موضوعي آخر وهو الايبيجينيتيك، إذن نحن أمام وصفات جديدة للحرية (اكراهان يتصارعان يعطيان بالضرورة هامشا من الحرية للبشر وشيئا إيجابيا مَا كما في الرياضيات سالب مع سالب يعطيان موجب)”.
أما في ما يخصّ المدرسة وتعليم الأطفال، فهناك في علاقة بكل هذا فكرة خاطئة تماما تَعتبر أن القدرة أو الاستطاعة البشرية الكامنة هي عبارة عن قوّة تتحدّد طبيعتها ودرجتها جينيّا بشكل مسبق منذ الولادة أو قبلها : أي أن هنالك أطفال يولدون بمقدّرات عالية وآخرون بمقدّرات أقل أو دون مقدّرات أصلا.
علم ما فوق الجينات يُفنّد هذه الفكرة أو يُنسّبها على الأقل ويؤكّد ـ في غير تطاول وقح على ما يحدّده رأس المال الوراثي في جزء كبير من شخصية البشر ومزاجه وذكائه الخ- أنه باستطاعتنا نحت حياتنا كما نريد إذا أردنا، وأننا مثلما “تقدر الشعوب إذا أرادت الحياة أن تجعل القدر يستجيب لإرادتها”، فإنه بإمكاننا تحييد العراقيل والتغلب على ما كنّا موعودون به لو تركنا البرنامج المركزي للــ ADNمُستبدّا بنا ومُحتكرا لسلطة التحكم في تصرّفاتنا وصيغ إقامتنا في المجتمع وفي المحيط.
يقول الباحثون في هذا المجال إنه “يكفي أن تتجه السياسات العمومية نحو خلق مناخات مؤمّنة للتعلّم تُتيح بدورها علاقات مبنيّة على الثقة والدعم المتبادل بين التلاميذ والمربين… حتى نُرفّع من منسوب الأوسيتوسين. ومن زاوية بيولوجية عصبية صرفة، فإن هذا المُعطى لوحده باستطاعته التصدي للأضرار التي يتسبب بها الكورتيزول عندما يرتفع مستواه تحت ضغط الواجبات المدرسية الخانقة على سبيل المثال أو تدنّي الأعداد المتحصّل عليها .. وبالتالي احداث تغيير إيجابي في كيمياء الدماغ لدى التلاميذ وتُتاح أمامهم الفرصة للنمو دراسيا ومشاعريا وعلائقيا. إذ لا يكفي أن نكون طيبين مع الأطفال، لا بد من بناء علاقات معهم تكون ذات دلالة في محيط تعليمي أو تربوي مستقرّ وآمن ومتخفّف من كل أصناف الضغط “.
فما هي الاستنتاجات الكبيرة والحاسمة ؟
في مجال التّوريث : اتضح أخيرا وبشكل علمي باتّ أن الإنسان لا يُورّث جيناته فقط بل يُورّث كذلك ما هو مُكتسب لديه سلبا وإيجابا (أي الإدمان على سبيل المثال وتعاطي الرياضة ومعاقرة الفنون والثقافة والطموح الدائم نحو الارتقاء والتطور).
في مجال المدرسة : أعتقد أننا على مشارف انتهاء خرافة الذكاء الموروث (الذي لا يؤثر إلا بنسبة ضئيلة جدا كما أسلفنا على القدرات الدراسية للتلاميذ) وحلول منطق التعويل شبه الكلّي على دور التلاميذ أنفسهم والكهول والمربّين والمدرسة عموما.
في مجال الطب : يبدو أن الإيبيجينيتيك ستؤثر بشكل دالّ في مستقبل البيولوجيا والوقاية الطبية والتأثير في عمل الجينات داخل الجسم بصورة عامة، لأن خاصية هذا العلم الجديد هو كونه “يدرُسُ ما يجهله الجينيتيك إلى حدّ الآن”.