أجاد الفنانون التحوير وإعادة تشكيل وتشكل الصورة الأصل بالاعتماد على البرمجيات الرقمية الحديثة، وفي مقاربة جريئة للمرئي واللامرئي والمراوحة بينهما، وذلك حسب الحاجة للكشف والحجب. فالتدخلات التقنية المفتعلة على الصور الفوتوغرافية كانت لغايات نفعية بأسلوب خيالي، من أجل استمالة المتلقي والترويج لفكرة استهلاكية.
كما وُظفت التحويرات في الشأن الإعلامي، لتصبح بذلك شريكا للعنف أثناء الحروب حيث تبث الألم وتصدمنا بمرئيّها، و بتحويرها للمضامين إلى درجة تأليفه حسب غاية الباث، في جدلية ما فتئت تحتدم بين المسألة الأخلاقية والفائدة الاقتصادية.
أصبحت الصورة الفوتو ـ رقمية جد خطيرة فهي تدعو إلى الصمت والتفكير ومساءلة المفاهيم، فإذا أردنا قراءة كذا نوع من الصور فعلينا في بعض الأحيان القيام بتجربة “اللاحركة” ليس لقصورنا عن ردة الفعل وتفضيل الصمت وعدم الفهم وغياب الدلالات داخل الصورة، بل لأن الصورة اليوم أصبحت قابلة لتتحمل الكثير من المعاني الجمالية مما يجعل عملية القراءة السيميولوجية أصعب وأعمق.
لذا كانت ردة فعل الفنانين المعاصرين نقدية لهذه التوجهات التي نحتـتها الصورة، فكانت أعمالهم تشكّل صورةً نقدا لصورة أخرى، فاختلفت المعالجة التشكيلية من ممارسة إلى أخرى ومن فنان إلى آخر للبحث في علاقة الصورة بالواقع وصداها في معاشنا من خلال تجارب معمّقة تفكّك أصولها وأبعادها. فالغوص في حاضر الصور دون المرور بالمسببات أو البعد التاريخي يجعل الإدراك غائبا، وحتى عملية التشكل تكون على أسس رخوة “والنتيجة في المحصلة تطور نمط من الإدراك هائم ومؤقت بلا ذاكرة ومحكوم عليه بأن ينخرط في حاضر دائم“[1]، فهو واقع أصبح فيه المتلقي أمام وهم الصورة لا أمام الصورة بعينها، واقع كرّسته ثقافة العولمة.
جاءت أعمال الفنانين المعاصرين مستلهمة مفاهيم تُعنى بالواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، مسخرة ممارسات تشكيلية ووسائط متطورة، والتي أنتجها تلاحم التقنية بالفنون المعاصرة، فغدت صورا مفاهيمية تبحث عن تلاقي ثنائيات عدة تمثل: الحسي والفكري، وما بين العاطفي والعقلاني، والفني والعلمي، والمرئي واللامرئي. لتعكس كل هذه الممارسات التشكيلية في مضمونها أشكالا تعبيرية كنتيجة لتمرد ورفض الفنان للوضع الحالي الذي يحياه الإنسان المعاصر، الشيء الذي نستدله من مقولة ألبير كامو التي تفيد في معناها أن ” الفن هو تمرد ضد العالم“[2]، أي رفض لكل الممارسات والتأثيرات التي من شأنها طمس جسد الإنسان وتشييئه.
الحاسوب: آلية فعل وتفاعل
يمّر العمل الرقمي في الحاسوب بالعديد من المراحل المتراوحة بين الحذف والإضافة والحجب والإظهار والتراكب والتشافّ والرسم المُباشر بالأدوات الرقمية… كلّها أفعال واعية تؤسس للفعل الإبداعي داخل الحامل الافتراضي.
تتقاطع عمليّة إنشاء الصورة الفوتوغرافية والصورة الرقميّة، فكلاهما نتيجة لصيرورة العملية الإنشائية المتوخاة من قبل الفاعل الأصلي للأثر، يراد القول بذلك جملة المؤثرات والعوامل والوضعيات سواء المدرَكة فعليا أو ما يعبر عنها بلاواعية وغير مقصودة في الذات الفاعلة. وينشأ هذا التقاطع من الحضور التفاعلي والبيولوجي والنفسي والإيديولوجي وغيرهم للذات المولِدّة للفعل.
إن الإنشاء التشكيلي الرقمي يقوم على إعادة تصميم الصور الثابتة المرصودة، وفقا لمنهج تشكيلي يتراوح فيه البناء التحضيري للمشهد بين ثنائية فعل وتفاعل، وإعادة صياغة فضاء الصورة المتغيّرة بتغير الحامل. فالصور الفوتو- رقمية تُبتكر بفضاء الحاسوب من خلال إعادة التدخل عليها، فيما تكوِّن الصورة الفوتوغرافية مادّة أوليّة نقوم بصياغة تشكيلية جديدة لها.
وتتصف هذه الصورة الفوتو – رقمية بالديناميكية، إذ تمر بالعديد من المراحل في الإنشاء والتحوّل الدائم في القراءة. كما تَتموضع وفقا للسياقات الاستيطيقية والتشكيلية المنضوية ضمنه. ولا يكتمل العمل التشكيلي الرقمي إلا بتكامل عدد هائل من الصور، لتؤدي معنى معلومًا فرضيا لصياغة المعنى الذي يتبلورُ في البرمجية الرقمية (الفوتوشوب مثلا). وهنا تتعارض الصورة الرقمية مع اللوحة التشكيلية أو الصورة الفوتوغرافية التي تعد عملا فنيا متكاملا بمجرد الانتهاء منها وعرضها، بحيث لا يتمكن الفنان من إجراء تعديلات أو تحويرات.
تستمِد الصورة الفوتو- رقمية إنشائيتها من خلال الصورة التي سبقتها ويكتمل المعنى في الصورة التي تعقبها. ويذكر بول دارن أن الفروق الأساسية بين الصورة المنشأة رقميا واللوحة التشكيلية هي ” أننا إذا نظرنا إلى الصورة الفيلمية بمعزل عن سياقها نجدها لا تعدو أن تكون صورة فوتوغرافية، ومع ذلك فإن تكوينها ليس هو تكوين الصورة الفوتوغرافية إلا أنه تكوين في الحركة، بينما يمثل التصوير الزيتي وجودا حقيقيا مستقلا بذاته والتكوين فيه يكون كاملا مُحددا داخل إطار”.[3]
بناء على ما تقدّم ،فإن اللوحة تمثل عملا مستقلا قائما بذاته مثلها مثل الصورة الرقمية.وذلك خلافا للصورة الرقميّة الفلمية التي لا تمثل فيها الصورة الثابتة سوى جزء مُكوّن لشريط مصوّر، frame. وتتمثل مقاربتنا الفوتو – رقمية من حيث وجه الشبه بينها وبين الصور الفلمية، يتمثل في رصد مجموعة صور مكوّنة لفكرة صورة واحدة تتحرر فيها حركة الفنان المعاصر.
وبما أن العصر الذي نعيش فيه هو عصر التكنولوجيا الذي لا ينفك يتطوّر، فمن الضروري استغلال هذه الوسائل والإمكانيات التي توفرها البرمجيات الرقمية في الفن الراهن، حيث أصبحنا نستطيع الحديث عن الورشة الافتراضية. وهذا التغير المفاهيمي يمثل تعبيرا صارخا لما أفرزته الحضارة من أنماط حياتية جديدة، ونماذج استهلاكيّة غير معهودة أثرت بالضرورة على الأذواق الفنيّة، ودفعت الفنان إلى تفجير طاقات إبداعية تشكيلية، كما ولدت لديه مزيدا من الجرأة لتخطي المألوف والخوض في غمار هذه التجربة …
ـ يتبع ـ
[1] Yves Michaud, Crise de l’art contemporain, Ed PAU, Paris, 1990, p.70
[2] Albert CAMUS affirme : « L’art, dans un certain sens, est une révolte contre le monde » Albert CAMUS, Le discours de Suède, Gallimard, Paris, 1997, p.54.
[3] هاشم النحاس، دراسات سينمائية، بغداد، منشورات وزارة الثقافة والإعلام، 1977 ، ص. 147