الاتحاد الأوروبي … المُفتَرَى عليه، أم المفترِي علينا؟
نشرت
قبل 3 سنوات
في
غريب ما حدث خلال أيام الأسبوع المنقضي… و غريب هذا الاجتماع العام الذي عقده برلمان الدول الأوروبية لمناقشة مستفيضة حول وضع دولة ليست عضوا في ذلك الكيان، و لا حتى من المترشحين لكي يكونوا أعضاء فيه على غرار تركيا و ألبانيا و مونتينيغرو … و يسفر كل هذا عن “قرار” و إنذارات شبيهة بما كان يصدره مجلس الأمن قبل غزو العراق !
البيان الذي أصدروه عن تونس كان في طول بيانات النقابات الوطنية عندنا، لا، بل في طول معاهدتي باردو و المرسى مجتمعتين … فيه مقدمة مستفيضة و حيثيات حول تونس كـ “شريك متميّز” للاتحاد الأوروبي، و اجتيازها ركودا اقتصاديا و صحيا واسع النطاق، و فسادا مستشريا، و لجوء الرئيس إلى تفعيل الفصل 80 من الدستور تبعا لذلك، و ترحيب ثلاث دول عربية بعينها (مصر، السعودية، الإمارات) بما فعله سعيّد … ثم يغوص البيان أكثر: بعد 22 سبتمبر تركزت كل السلطات في يد واحدة، المجتمع المدني رافض لهذا الوضع، هناك خوف على الديمقراطية و الحقوق الأساسية في تونس، مصالح تونس مرتبطة عضويا بالاتحاد الأوروبي، لا يمكن ضمان هذه المصالح دون عودة الديمقراطية و الأمن و الاستقرار …
و بائن من هذه العناوين ما ورد بعدها من قرار في 17 نقطة، أن الاتحاد ليس على قلق بالغ من وضع الحريات في تونس كما يقول، و لا من “التدخل الأجنبي للأنظمة الاستبدادية الذي يقوض الديمقراطية التونسية” كما يزعم، و لا من مزيد تردي الوضع الاقتصادي الذي أوصل أعدادا من الشباب إلى الهجرة كحارقين أو كأدمغة، و لا من هشاشة الوضع الصحي الذي ينذر بكارثة في كل وقت (ملاحظة: لم يقل البيان كلمة عن تحسن هذا الوضع بعد 25 جويلية)، و لا “من حق الحضانة و حقوق عاملات الفلاحة” حسب تخريجة لا ندري ما محلّها … بل أهمّ ما في البيان و لبّ موضوعه، هو “استئناف عمل مجلس النواب” المجمّد، برئيسه ذاك و نائبي رئيسه ذيْنك و رؤساء كتله و مخلوفه و أسامته و ساميته و كناتريته و بقية جوقته المعروفة … بلا لفّ و لا مداورة و لا دوران !
رجّع البرلمان … على وزن “رجّع الجمهور” الشعار الذي رفعته الأندية الرياضية منذ عام … رجّعْ مجلس باردو و حزبه الأغلبي الذي يحكم منذ 10 سنوات متّصلات … و دون ذلك، فبينك و بين الاتحاد الأوروبي الموت الزؤام و الحرب و لو في الشهر الحرام …
أوّلا … ما نسميه غالبا بالاتحاد الأوربي و في علاقة بنا، هو كناية عن دولة بعينها لا 27 دولة … فنحن لا مشكلة لنا مع ألمانيا مثلا أو إيطاليا الجارة البحرية الأقرب … و لا سابق معرفة أو تعامل لنا مع كرواتيا أو فنلندا أو إستونيا أو قبرص … اللهمّ إذا استثنيا حادثة السفينة القبرصية التي “جلڨها” بعض أجلافنا منذ ثلاث سنوات، و ما زالت قضيتها بين المحاكم الدولية و شركات التأمين … لا نعرف من أوروبا تقريبا و لا نجد من يحشر منهم أنفه في شؤوننا سوى دولة واحدة: فرنسا … هي التي يستتر تحتها تعاملنا الاقتصادي الطاغي مع أوروبا، و هي التي تُميل كفة ميزاننا التجاري نحو الخسارة منذ دهور، و هي التي تحتكر وجهة أيدينا العاملة و نزيف أدمغتنا، و هي التي تحتضن معظم إرهابيينا و الخارجين عن ملّتنا، و هي التي تسيطر بالطول و العرض على مقاديرنا … و منذ 140 سنة بالتمام و الكمال …
و كم يضحكني جمهور يسارنا و نقابيينا في تنديده المسترسل بالإمبريالية الأمريكية … لا لأن الأمريكان ليسوا قوة هيمنة متوحشة، بالعكس … بل لأن في حالتنا نحن بالذات (دول المغرب الأوسط) لم نتشرف بعد بالتعرف على أمريكا و لا على إمبرياليتها، بما أن امبريالية أصغر و لكن أرسخ قدما على أراضينا، هي التي نصبح و نمسي عليها منذ قرن و نصف إلى اليوم … و مع ذلك، فقد نجحت في إيهامنا بأنها ليست كذلك، و جعلتنا نردد كالببغاوات شعارات التصدي لإمبريالية العم سام بدل امبرياليتها … بل و فينا شرائح واسعة ممن يرفضون قطعا هذا التوصيف و يعتبرونه من التاريخ القديم … أو على الأقل يستغربون حين تقول لهم إنه يوجد “أيضا” في هذا العالم، شيء اسمه الامبريالية الفرنسية !
لسنا في وضع من يحاسب الآن فتلك مهمة أجيال لو عملت و نهضت و أرادت، بداية من الجيل الأتعس الذي نحن منه … و لكن من واجبنا اليوم كأضعف إيمان، أن نستفهم عن متناقضات في سياسة هذه الدولة “اللا صديقة” معنا … مثلا عن سكوتها المطبق عما حصل من غياب للديمقراطية قبل 2011 … و عن عرضها مد السلطة القديمة بالسلاح و العتاد اللازمين لإخماد انتفاضة 2010 ـ 2011 … و عن سكوتها المطبق أيضا خاصة عما يحصل منذ 2011 … اغتيالات معارضين، إرهاب شوارع، تسفير الآلاف من شبابنا إلى بؤر الهلاك و الدعارة، فساد عميم حوّل الدولة جهارا إلى غنيمة غزو، و نتج عنه انهيار كلي لكافة المنظومات … و لا تحدثني عن الموقف الفرنسي من حرياتنا آنذاك، و قد صودرت كلها بوجهيها العام و الفردي … و عن الديكور الممجوج الذي وُضع فوق ذلك، و الذي يتخلّف بسنوات ضوئية عن جميع الديكورات، بما فيها الذي وضعه سابقا بن علي …
قيل كثير في هذا و لن نعيد الاسطوانة … يكفي أن نقول لاستعماريي الجمهورية الخامسة: كفى كذبا علينا كما كذبتم على أنفسكم … فما حصل يوم 25 جويلية ليس فعل شخص و لا من بنات أفكاره … و لو كان لكم “رأي سداد، و عقل يميل بكم للرشاد” لرأيتم أبعد من أنوفكم، شعبا بأغلبه الساحق لا يريدكم و لا يريد بيادقكم الذين أرسلتموهم علينا بعد 14 جانفي … كشف نفاقكم و لصوصية أفعالكم و أفعال مواليكم، و هو الآن بصدد استيعاب درس لم يستوعبه في الخمسينات، غداة إمضاء تلك الاتفاقية التي ضحكتم بها عليه … تماما كما هو الحال في البلدين الجارين الآخرين، بل الثلاثة … إذا اعتبرنا جرائمكم في حق طرابلس و عبثكم بزعيمها السابق حيا و ميتا و معه ثرواتها المسروقة بأيديكم …
و ما دمنا في استذكار ملحمة “بني وطني” الحية دائما، خذوا هذه الخاتمة: