جور نار

الاستقلال … فلاحة أوّلا (15)

نشرت

في

من الكذبات الشائعة التي تروّجها عن نفسها الدول الكبرى، أنها لا تعتمد على الفلاحة في اقتصادها وتنسب ذلك إلى البلاد المتخلّفة …و كانوا يشهرون في وجهك ازدهار الأنشطة الصناعية و دام ذلك زمنا طويلا … ثم انتقلوا في الجيل الحالي إلى طرح اقتصاد يعتمد في أغلبه على الخدمات، و خاصة على تكنولوجيات الاتصال …

<strong>عبد القادر المقري<strong>

هراء … فما من دولة قوية إلا ونشاط الزراعة فيها رخيّ مصون يحقق لها اكتفاء ذاتيا ووفرة تستوجب التصدير … في أساسيات استهلاكها أوّلا، وفي قدرتها على مقايضة ما بفيض عن حاجتها بمنتجات فلاحية من بلاد أخرى … قمح مقابل شاي أو قهوة أو فواكه استوائية إلخ … كما أنها وبعد السيطرة على ميزان قوى اقتصادي و سياسي معيّن، تحوّل غذاء الشعوب إلى سلاح ناجع، وتضع يدها على مواقع إنتاج ذلك الغذاء حتى لو كانت في أقاصي الأرض … وفي كل الأحوال و حتى لو اكتفت باستهلاك بعض المنتجات، فإنها تجعل من نفسها سوقا قوية تحكم العرض و الطلب و الأسعار… بدليل أن من يحدد سعر القهوة ليس المزارع البرازيلي أو الإفريقي، بل بورصات لندن و باريس و نيويورك …

مؤدّى كلامنا أن من يتهاونون عندنا بالمجال الفلاحي، ويوكلون إدارته لوزراء هواة، و يعبثون بملكيات الأراضي الوطنية فاتحين إياها أمام الشارد و الوارد … هؤلاء هم بصدد تسليم رقابهم ورقابنا لسكين الجزّار لا أكثر، و يرهنون البلاد أخطر أنواع الرهن ، أفظع أشكال الخوصصة … طبعا لا علاقة لهذا الكلام بما يدور هذه الأيام حول الشركات الأهلية و الأراضي الاشتراكية إلخ، وقد أبدينا الرأي منذ مدة قصيرة (و من مُدد أطول بكثير) عن تجربة التعاضد بمعناها الإسكندينافي، و ترجمتها التونسية المحرّفة …

وزراء الفلاحة الذين تعاقبوا كانوا إما من الهواة أو من أهل المصالح أو الفئتين معا … ولكي ننجو ذات يوم، فالتقدير أن تُرسم استراتيجيا أمن قومي تقع الزراعة منها موقع القلب … لندع الصناعة تنجح أو تفشل، و خدمات الذكاء الصناعي تنمو أو تتعثر، و السماسرة يلعبون بهذا القطاع أو ذاك و لكن إلا الفلاحة … يقول آخرون بل التعليم أو الصحة أو القضاء أو البُنى التحتية و غيرها … و لكني أشدد على خدمة الأرض أجود الخدمات لأنه من هناك تأتي السيادة فالكرامة والثروة … فماذا يبقى لنا لكي ننشئ تعليما و صحة و قضاء و مرافق على مستوى؟ و أية بنية ستُعجزنا بعدما نكون قد بنينا الإنسان؟ …

الفلاحة تعليم قبل كل شيء، و قد بارت أراضينا و تقهقر إنتاجنا حين أهملنا مدارس تيبار و بورويس و بوليفة و ماطر و سيدي ثابت … كان من شأن هذه المدارس أن تعطينا أجيالا من محترفي الفلاحة بأشكالها، و حسن التصرف في مواردنا، و تطوير المناهج و خاصة استكشاف ما هذه الرقعة بقادرة على إنجابه و هو كثير كثير … ولطالما أرهقتنا التجارب و التقليعات و الاستنساخات و الرضوخات لشروط الخارج بقبول بذور ليست بذورنا، و فصائل حيوانية ليست من بيئتنا، و تقسيم دولي للعمل جعل منّا متسوّلي حصص على أعتاب الاتحاد الأوروبي …

الفلاحة استكشاف و بحث، و هي أيضا تثمين لما هو موجود نراه و لا نعرف له قيمة … غاباتنا مثلا يقع الهجوم المنتظم عليها حتى لتكاد تغطي 1 بالمائة فقط من كامل مساحتنا … بذلنا منذ عشرات السنين جهدا في التشجير كسا أكثر من منطقة جرداء ليس أقلّها ذلك المنتزه الساحر بعين جمّالة … و لكن ذلك توقّف فجأة و رحنا نتراجع، و لا يغرّنّك الاحتفال السنوي بأعياد الشجرة و ما يرافقه من فولكلور الغراسة … و قد قال لي صديق متخصص إنه لو كانت لنا دولة جادة في غراسات عيد الشجرة طيلة هذه السنين، لأصبحنا أكثر خضرة من سويسرا …

بحد أدنى من العناية، بإمكان غاباتنا أن تنتج عددا لا متناهيا من المواد و تصبح مصدرا قارا لثروتنا … من الأخشاب النفيسة إلى ألأعشاب الطبيّة إلى الزيوت ألأساسية إلى الثمار إلى الفطريات إلى سياحة التجوال إلى السياحة الاستشفائية و غير ذلك كثير … و لكن ماذا تقول مع الأدمغة الملحّمة التي تركت العمران يزحف على جبل النحلي (حي النصر) و يقضم منه أجزاء مهمّة كانت على ذمّة عليلي الرئة في مصحّ أريانة (عبد الرحمن مامي حاليا) … و حتى عندما تبعد عن العاصمة قليلا لك أن تحتار في مصير غابات الوطن القبلي، و زغوان، و الشمال الغربي، مرتفعات بنزرت، و ربوع القصرين … و هل الإرهاب استوطن في بعضها لأنه وجدها عامرة فأخلاها؟ …

ـ يتبع ـ

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version