من الكذبات الشائعة التي تروّجها عن نفسها الدول الكبرى، أنها لا تعتمد على الفلاحة في اقتصادها وتنسب ذلك إلى البلاد المتخلّفة …و كانوا يشهرون في وجهك ازدهار الأنشطة الصناعية و دام ذلك زمنا طويلا … ثم انتقلوا في الجيل الحالي إلى طرح اقتصاد يعتمد في أغلبه على الخدمات، و خاصة على تكنولوجيات الاتصال …
هراء … فما من دولة قوية إلا ونشاط الزراعة فيها رخيّ مصون يحقق لها اكتفاء ذاتيا ووفرة تستوجب التصدير … في أساسيات استهلاكها أوّلا، وفي قدرتها على مقايضة ما بفيض عن حاجتها بمنتجات فلاحية من بلاد أخرى … قمح مقابل شاي أو قهوة أو فواكه استوائية إلخ … كما أنها وبعد السيطرة على ميزان قوى اقتصادي و سياسي معيّن، تحوّل غذاء الشعوب إلى سلاح ناجع، وتضع يدها على مواقع إنتاج ذلك الغذاء حتى لو كانت في أقاصي الأرض … وفي كل الأحوال و حتى لو اكتفت باستهلاك بعض المنتجات، فإنها تجعل من نفسها سوقا قوية تحكم العرض و الطلب و الأسعار… بدليل أن من يحدد سعر القهوة ليس المزارع البرازيلي أو الإفريقي، بل بورصات لندن و باريس و نيويورك …
مؤدّى كلامنا أن من يتهاونون عندنا بالمجال الفلاحي، ويوكلون إدارته لوزراء هواة، و يعبثون بملكيات الأراضي الوطنية فاتحين إياها أمام الشارد و الوارد … هؤلاء هم بصدد تسليم رقابهم ورقابنا لسكين الجزّار لا أكثر، و يرهنون البلاد أخطر أنواع الرهن ، أفظع أشكال الخوصصة … طبعا لا علاقة لهذا الكلام بما يدور هذه الأيام حول الشركات الأهلية و الأراضي الاشتراكية إلخ، وقد أبدينا الرأي منذ مدة قصيرة (و من مُدد أطول بكثير) عن تجربة التعاضد بمعناها الإسكندينافي، و ترجمتها التونسية المحرّفة …
وزراء الفلاحة الذين تعاقبوا كانوا إما من الهواة أو من أهل المصالح أو الفئتين معا … ولكي ننجو ذات يوم، فالتقدير أن تُرسم استراتيجيا أمن قومي تقع الزراعة منها موقع القلب … لندع الصناعة تنجح أو تفشل، و خدمات الذكاء الصناعي تنمو أو تتعثر، و السماسرة يلعبون بهذا القطاع أو ذاك و لكن إلا الفلاحة … يقول آخرون بل التعليم أو الصحة أو القضاء أو البُنى التحتية و غيرها … و لكني أشدد على خدمة الأرض أجود الخدمات لأنه من هناك تأتي السيادة فالكرامة والثروة … فماذا يبقى لنا لكي ننشئ تعليما و صحة و قضاء و مرافق على مستوى؟ و أية بنية ستُعجزنا بعدما نكون قد بنينا الإنسان؟ …
الفلاحة تعليم قبل كل شيء، و قد بارت أراضينا و تقهقر إنتاجنا حين أهملنا مدارس تيبار و بورويس و بوليفة و ماطر و سيدي ثابت … كان من شأن هذه المدارس أن تعطينا أجيالا من محترفي الفلاحة بأشكالها، و حسن التصرف في مواردنا، و تطوير المناهج و خاصة استكشاف ما هذه الرقعة بقادرة على إنجابه و هو كثير كثير … ولطالما أرهقتنا التجارب و التقليعات و الاستنساخات و الرضوخات لشروط الخارج بقبول بذور ليست بذورنا، و فصائل حيوانية ليست من بيئتنا، و تقسيم دولي للعمل جعل منّا متسوّلي حصص على أعتاب الاتحاد الأوروبي …
الفلاحة استكشاف و بحث، و هي أيضا تثمين لما هو موجود نراه و لا نعرف له قيمة … غاباتنا مثلا يقع الهجوم المنتظم عليها حتى لتكاد تغطي 1 بالمائة فقط من كامل مساحتنا … بذلنا منذ عشرات السنين جهدا في التشجير كسا أكثر من منطقة جرداء ليس أقلّها ذلك المنتزه الساحر بعين جمّالة … و لكن ذلك توقّف فجأة و رحنا نتراجع، و لا يغرّنّك الاحتفال السنوي بأعياد الشجرة و ما يرافقه من فولكلور الغراسة … و قد قال لي صديق متخصص إنه لو كانت لنا دولة جادة في غراسات عيد الشجرة طيلة هذه السنين، لأصبحنا أكثر خضرة من سويسرا …
بحد أدنى من العناية، بإمكان غاباتنا أن تنتج عددا لا متناهيا من المواد و تصبح مصدرا قارا لثروتنا … من الأخشاب النفيسة إلى ألأعشاب الطبيّة إلى الزيوت ألأساسية إلى الثمار إلى الفطريات إلى سياحة التجوال إلى السياحة الاستشفائية و غير ذلك كثير … و لكن ماذا تقول مع الأدمغة الملحّمة التي تركت العمران يزحف على جبل النحلي (حي النصر) و يقضم منه أجزاء مهمّة كانت على ذمّة عليلي الرئة في مصحّ أريانة (عبد الرحمن مامي حاليا) … و حتى عندما تبعد عن العاصمة قليلا لك أن تحتار في مصير غابات الوطن القبلي، و زغوان، و الشمال الغربي، مرتفعات بنزرت، و ربوع القصرين … و هل الإرهاب استوطن في بعضها لأنه وجدها عامرة فأخلاها؟ …