جور نار
البؤساء 2 …
نشرت
قبل سنة واحدةفي
يوم نجحت في مناظرة مواصلة دراستي بالمعهد الوطني للعلوم السمعية البصرية بباريس وكان ذلك في نهاية مارس 1976 …يومها انتقلت لمطار تونس قرطاج، ورافقني المودّعون من الاهل والاصدقاء ومن بينهم والدتي رحمها الله …
اتممت الاجراءات وهممت بالدخول الى بهو قاعة الانتظار في انتظار الحافلة التي ستتكفّل بنقلنا الى مدرج الطائرة .وفجأة رأيت الوالدة تبكي دون دموع ..عدت اليها كطفل يرفض مقاطعة حضن امّه ..كيف اغادر وعيّادة ـ والدتي ـ ليست عيّادة التي اعرفها ..عيّادة الكاريزما والصبر والثبات لم اجدها ..ضاعت ..فضيّعتني وتاهت فتوّهتني .. مسكت يدها المرتعشة وسألت ..قولي يا امّاه ما الخطب .. وبحنّية الأم حاولت ايهامي بأنّ لا شيء سوى بعدي عنها .. طبعا لم اقتنع واعدت مسك يدها هذه المرّة وبكلّ اصرار … واقسمت لها انّي لن اغادر تونس ولن اغادر المطار ان لم تفصح عن السبب الحقيقي لدموعها التي لم تنزل امام الجميع ولكنّها نزلت حارقة في كلّ شراييني ..
ولانّها تعرف جيّدا طفلها و (كسوحية راسو) وانّه يفعلها وبسهولة .. تنهّدت وقالت ..تعرفها وليدي هاكي غناية بنت الروميّة ؟؟ واجبت: عمري ما سمعت بمغنّية اسمها بنت الرومية .. ابتسمت ابتسامة هي بطعم الدموع ورائحتها وقالت ..لا لا ..الاغنية التي تقول (يا ربّي سيدي اش عملت انا ووليدي .. ربيتو بيدي وخذاتو بنت الرومية)، وهنا اردفت: اه تقصد غناية نورا الجزائرية ؟ … كيف اصف لكم ردّ فعلها ؟ هي لعجت عليّ دون ان تتكلّم لعجت عليّ بنظرة لست ادري كيف اصفها ..عيّادة رحمها الله لو كانت من هذا الجيل (اللي يالندرة كيفاش) لكان ردّها من نوع: اشبيك تميّع في القضيّة يا برو ..لاني كنت ابنها وصديقها وكلّ الدنيا …
وبسرعة تداركت موقفي الماسط وقلت لها ..عيادة خايفة من كريمها ان يقع في شباك فتاة اوروبية هنالك فينسى اهله وحارته ومدينته وبلده وينسى عيّادة ؟؟ تأوّهت وقالت ..هكّة قالولي ..قبّلت يدها بكلّ حبّ وعشق ونظرت اليها مليّا وسالتها ..عيّادة جابت راجل او طلطول ؟؟ وبكلّ لهفة وعمق وايمان قالت ..جبت راجل وسيد الرجال .. اعدت تقبيل تلك الايادي التي لم املّ ولم ارتو من تقبيلها طيلة وجودها في حياتي، ونظرت الى عينيها المتلهفتين لاجابتي وقلت ..اطمان على ولدك …لن تستطيع ايّة فتاة لا شرقيّة ولا غربيّة ان تنسيني عائلتي وحومتي ومدينتي وبلدي …
سافرت ودرست وفي ختام دراستي اغراني مدير شركة سينمائية للعمل معه ولمدّة خمس سنوات وبعقد خيالي ..شكرته وقلت له ما عرضته عليّ هو بمثابة الكنز ولكن هنالك في بلدي كنوز لا تُقدّر بثمن ..كلّ ما في بلدي جواهر تهزأ بكلّ جواهر العالم ..اذ علاوة على امّي وعائلتي واصدقائي اين اجد الورد العربي خارج بلدي ؟؟ اين اجد الخزامة والحبق ونوّار عشيّة ؟ اين اجد صبارص الشابّة وامّيلة قرقنة وعلّوش سيدي بوزيد ؟؟ نعم العراق هو بلد المليون نخلة ..نعم تذوقت كلّ انواع التمور في البلدان العربية والغربية ولكن لم اجد يوما هنالك بلحا من نوع بوحطّم او الكنتيشي .. اين اجد السي اس اس ؟؟ فحتى اليوفي لا تغريني امام عشقي المهبول لفريقي ؟؟ اين اجد بحر المناقع وهو من اجمل البحار التونسية والواقع بين قصور الساف وسلقطة ؟ اين اجد شغب ابناء بلدي ؟ اين اجد جلبة الناس في الشوارع والانهج والطرقات ..هي بالنسبة لي سمفونيات لم يستطع لا بيتهوفن ولا فيفالدي ولا شوبان الاتيان بمثلها ..
التعلّق ببلدك او ببلدتك له طعم خاص ولون خاص وعشق خاص.. في بلدتك وانت عاشق لها ومتشبث بها تصبح المساوئ محاسن .. لانّ بلدك يصبح جزءا من تنفسك ..وفي التنفس نستنشق الاوكسجين وننفث غاز الفحم ..هكذا تعلّمت في مادّة العلوم وانا طفل ..وانا من فئة الاطفال الذين لم يكبروا بتاتا …كلّ ماذكرته يمكن لايّ منكم اسقاطه على حياته في عائلته وفي حومته وفي بلدته ..تتغيّر العادات وانواع المأكل والمشرب ولكن يبقى طعم البلد واحد ورائحته واحدة .. وموسيقاه واحدة وحتّى بلادة البعض وركاكتهم واحدة ..وما قيمة الضمار ان لم يتقيّا الواحد منّا ببلادة ومساطة وركاكة ؟؟ الم نتفق انّ الاشياء تُعرف باضدادها ؟؟
هذه المقدّمة والتي لو جاءت في موضوع انشاء لسخطني المعلّم بالملاحظة المعهودة ..مقدمتك طويلة يا سي الشباب ..موش قداش من مرّة قلتلك اختصر المقدمات وادخل في صلب الموضوع …وهنا اغتنم الفرصة صديقنا وكبيرنا فيكتور هيغو وصحا من غفوته وقال ..ايّة هات الرسمي ..وين البؤساء عدد 2 متاعك .. تبسمت في حياء واجلال للشيخ فيكتور وقلت له مهلا سيّدي لو عرفت السبب لبطل العجب …وطفقت في طرح جوهر الموضوع … قلت يا سيّد فيكتور في عائلتي واصدقائي وبلدي هنالك من يشتري الحبّ بالعذاب ..هنالك من يغادر بلده طوعا ليشتري اوضاعا افضل … ولكنّه يشتري الحرمان من صبارص الشابة واميّلة قرقنة وبقية القائمة ..قد اتفهّم اوضاعه المقيتة والمؤلمة وخاصّة بعد غورة 14 جانفي 2.011 ..حيث لا شغل ولا حرية ولا كرامة وطنية الموعودون بها والتي افقنا يوما واكتشفنا انّها ليست فقط شعارات زائفة بل تحوّلت الى كوابيس ..
وطبعا امام هذا الواقع الاليم وجد العديد من التونسيين انفسهم مجبرين على الهجرة … وهنالك هجرة من طراز آخر هجرة الهاربين من تونس لملّفات تعلّقت بهم وخاصة اولئك اللصوص السياسيون الذين عاثوا في تونس فسادا ..وهنا اندهش جدا من بطاقات الجلب التي صدرت في شأنهم ..تلك الفئة تعيش اقسى عقاب لانها مهما عاشت البذخ بفضل مموليها فانّها ابدا بل يستحيل ان تعيش سعادة رائحة البلد وطعم البلد ..اذن لا تجلبوهم دعوهم هناك وهو اشدّ عقاب … دعوهم وسيكتشون طال العمر ام قصر انهم اتعس البؤساء …
امّا بالنسبة إلى الفئة الاولى التي اجبرت على الهجرة لتحسين ظروفها عليها ومن ضمنهم ابني المهاجر منذ بضع سنوات، اهمس بكلّ لطف ولين وحبّ لاقول .. عليك وعلى الجميع امثالك ان تتعلّموا شيئا هاما في تقديري … هجرتكم عليها ان تكون هجرة ظرفيّة …اعيدوا ترتيب اوراقكم ..اعدّوا العدّة لعودتكم يوما مّا لعائلاتكم ولبلدكم ولاصدقائكم …دون ذلك ستكونون بؤساء وسنكون ايضا ونحن في خريف العمر اتعس البؤساء …
تصفح أيضا
عبد الكريم قطاطة:
لم انس ما فعله معي المرحوم صلاح الدين معاوي في حلحلة المظلمة التي تعرضت لها بعد عودتي من فرنسا وانا احمل معي ديبلوم الدرجة الثالثة للعلوم السمعية البصرية سنة 1979 دون أن يشفع لي نجاحي اوّل في تلك الدفعة …
لم اجاز على ذلك الا بتلكؤ كلّ الادارت التي تعاقبت والتي وبخطأ منها رسمتني في قائمة المهندسين… وهذه كانت بالنسبة لي جناية في حقّ كل من ينتمي لذلك الاطار في الوظيفة العمومية لانّي لم ادرس يوما لاتخرّج مهندسا ..وامام رفضي لهذه الوضعية رغم اغراءاتها المادية وقع تجميد ملفّي 9 سنوات كاملة… حتى اقدم السيّد صلاح الدين معاوي على فتح ملفي من جديد وفي ظرف وجيز قام بالتسوية… لذلك وامام اقتراحه بتكليفي بمهمة الاشراف على اذاعة الشباب من اجل ادخال تطويرات عليها، خجلت من نفسي ان انا رفضت… ولكن وللشفافية المطلقة قلت له طلبك على عيني سي صلاح لكن بشرط ..ابتسم لي وقال (ايّا اعطينا شروطك يا كريّم .. اما ما تصعبهاش عليّ) ..
قلت له (اعترافا منّي بالجميل لك ولن انسى جميلك ساقبل الاشراف على اذاعة الشباب ولكن ضمن رؤيتي الخاصة لكيف يجب ان تكون اذاعة الشباب) .. لم يتركني اكمل واجاب على الفور ..انا اعرفك منذ سنوات ..واعرف ثوابتك ..ومن اجلها اخترتك لتكون مشرفا عليها وبنفس تلك الثوابت ولك منّي الضوء الاخضر والدعم الكلّي ..شكرته واردفت (سافعل كلّ ما في وسعي لارضاء ضميري ولاكون في مستوى ثقتك ..لكنّي لم اتمّ حديثي) .. ودائما بوجهه الباسم قال: (هات ما عندك) ..قلت اوّلا اشرافي على اذاعة الشباب يجب الاّ يبعدني عن المصدح ..المصدح هو عشق وانا لا استطيع التنفس لا تحت الماء ولا فوقه دون ذلك العشق…
ودون انتظار منّي قال سي صلاح ..واشكون قلك ابعد عن المصدح ؟؟ مازالشي حاجة اخرى يا كريّم ؟ … قلت له نعم هي حاجة اخيرة ..ساقبل على هذه المسؤولية بكلّ ما اوتيت من معرفة وجدّية وحبّا في بلدي لكن ساتخلّى عن هذا الدور بعد سنة للشروع في التوجّه الى الاعمال التلفزية كمنتج وكمخرج ..ضحك هذه المرّة سي صلاح وقال لي (يقولولي عليك راسك كاسح وما تعمل كان اللي يقلك عليه مخّك ..ويبدو انهم عندهم حقّ… المهمّ الان توكّل على الله ثمّ لكلّ حادث حديث) …
وفعلا شرعت بداية في الاستماع لبرامج اذاعة الشباب والتي تبثّ يوميا من الساعة السابعة الى التاسعة ليلا باستثناء يوم الاحد حيث تبدأ من الثانية ظهرا حتى السادسة مساء .. لآخذ فكرة عن واقعها ولاصلح ما يمكن اصلاحه… ولعلّ ابرز ما لاحظته في استماعي شهرا كاملا انّ عديد الاصوات التي كانت تعمّر اذاعة الشباب لا علاقة لها البتّة بالعمل الاذاعي ..ثم حرصت في نفس تلك الفترة على التعرّف على هويّة منشطيها فادركت انّهم في جلّهم من المنتمين الى التجمّع …وهنا عليّ ان اشير الى احترامي دوما لتوجّهات الفرد في اختياراته لكن شريطة ان لا يتحوّل المصدح الاذاعي لخدمات مصالحه الحزبية الضيقة ..المصدح كان وسيبقى في خدمة البلد لا في خدمة الاشخاص والاحزاب …
وامام هذه الحالة قررت ابعاد العديد من المنتمين لاذاعة الشباب انذاك امّا لاسباب مهنيّة بحتة (اي هم لا يصلحون للعمل الاذاعي لا صوتا ولا حضورا) او لوضوح مطامح البعض منهم وبشكل انتهازي لاجندة الحزب الحاكم ..وفي الاثناء كان عليّ ان اجد البديل ..اتجهت رأسا لبرامج الاطفال التي كانت تبث باذاعة صفاقس لدرايتي بالخبرة التي اكتسبها عديد براعمها مع منتجي تلك البرامج وعلى راسهم الكبير سي عبدالرحمان اللحياني حفظه الله ..وفعلا وجدت في تلك البرامج اسماء في بداية سنّ الشباب …وقمت ايضا بكاستينغ اخترت فيه اسماء جديدة قادرة على ان تكون ضمن اذاعة الشباب ..ووزّعت هذه الاسماء على فرق وكلّفت بعض الزملاء ذوي التجربة والكفاءة برئاسة تلك الفرق … وانطلقت مع الجميع في برمجة جديدة هدفها الاهتمام اليومي بمشاغل الشباب دون استعمال آلات الايقاع وعلى رأسها البنادر .. كان الشعار الذي اتبعناه انذاك (نحن معا نبحث عن الحقيقة كلّ الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة) ..ونجحت اذاعة الشباب في استقطاب جمهور عريض ..ونجح العديد من براعمها في نحت اسماء مازالت لحدّ الان تعمل بنجاح ..لانّها تعوّدت على الجدّية وعشق المصدح ..والالتزام بان لا شيء يعلو فوق الوطن ..
وبعد سنة يوما بيوم قدّمت استقالتي امام دهشة الجميع ..كان الجميع على علم بشرطي المتمثّل في مغادرة اذاعة الشباب بعد سنة ..لكنّ العديد منهم كان يتصوّر ذلك مجرّد تسويق كلام ..حتى حصل ما كان في الحسبان ..وكُلّف الزميل عبدالقادر السلامي رحمه الله بالاشراف عليها بعد مغادرتي حتى وقع حلّها عندما فُتح المجال لاذاعة الشباب بتونس لتصبح الضرّة التي قتلت ضرّتها ..وما اكثر ضرائرنا عندما يتعلّق الامر بصفاقس ..
قبل ان اصل الى التسعينات لابدّ من العودة الى نهاية الثمانينات لاشياء عشتها سواء اذاعيا او صحفيا ..في بداية جانفي 1988 كنت استعدّ للدخول الى الاستوديو لتقديم الكوكتيل في الاصيل… توقيتا كانت الساعة تشير الى الثالثة والربع ليتّصل بي موزّع الهاتف قائلا هنالك مستمعة اتصلت بك عشرات المرات لحاجة شخصيّة ملحّة ..هي معي على الخطّ هل امررها لك .قلت مرحبا ..جاءني صوت شابة يقطر حزنا وخذلانا ..لم تتأخّر عن الكلام وقالت بصوت متهدّج ..انا اسمي مروى من الساحل ..مشاكلي لا تُحصى ولا تُعدّ ولذلك قررت وضع حدّ لحياتي وسيكون برنامجك اخر شيء استمع اليه ..وانقطع الخطّ ..
للامانة انا كنت ومازلت اعوّل على احساسي بصدق الاخرين ..احسستها صادقة وكان عليّ ان افعل شيئا ما… قلبت البرنامج في محتواه المقرّر له… الغيت كلّ الاغاني المبرمجة مسبقا وعوضتها باغان تدعو للامل والتشبث بالحياة … كان سباقا ضدّ الساعة ..دخلت الاستوديو وبسطت الامر على المستمعين في سؤال للجميع ..هل باماكننا انقاذ مروى وثنيها عن قرارها ..وتهاطلت مكالمات المستمعين بكلّ حرقة وروح انسانية عالية… وقبل ان اغادر الاستوديو خاطبت صديقتنا مروى بقولي (انا ساغادر الاستوديو الان ولكن لن اغادر مقرّ الاذاعة حتى ياتيني هاتفك ليقول لي ولكلّ المستمعين انّك عدلت عن قرارك) …
نعم وكان ذلك…وبقيت متسمّرا في الاذاعة حتى منتصف الليل ليرنّ الهاتف بمكتبي وياتيني صوت مروى الباكي والمبشّر بشكرها وامتنانها للبرنامج وللمستمعين الذين اعادوا لها الامل في الحياة..ورجوتها ان تطمئننا من حين لاخر عن حياتها وفعلا فعلت… بل وهو الامر الذي اسعدني وأسعد المستمعين، حياتها استقرّت وتزوجت وانجبت اطفالا وهي تنعم بالسعادة والامان ..ما ذكرته لا يعني بالمرة استعراضا لبطولة ما وافتخارا بها، بل كنت ومازلت اؤمن انّ المنشط ان مات اوتجمّد في داخله الانسان لا يستحقّ وجوده امام المصدح .. ما قيمة الانسان ان مات في داخله الانسان .. انه اشبه بالدمية التي لا روح فيها ولا عطر ولا حياة…
ـ يتبع ـ
محمد الزمزاري:
… من ذلك رأينا آلاف الاكشاك المنتصبة على الطرقات بصور مشبوهة و نشاطات هي أيضا خارجة على الذوق والصحة والقانون…
وفي هذا الإطار نجحت عمليات توسيع الترويج بكامل البلاد عن طريق عصابات جهوية ومحلية لم تتورع حتى عن مراودة تلاميذ المدارس الابتدائية. كما دخلت للسوق انواع جديدة من المخدرات زيادة عن القنب والتكروري والماريخوانا وشتى مستحضرات الهلوسة… ونظمت العصابات المافيوزية صفوفها بدعم متواطئ من أطراف فاسدة وتوسعت عمليات الترويج والاستهلاك تبعا لتوسع شبكات التهريب التي كانت مستقوية كما ذكرنا بسياسات لم تكن تعنيها مخاطر التهريب او الترويج او انتشار الاستهلاك في كل الأماكن مدنية او ريفية او مدرسية وربما جل الشرائح بنسب متفاوتة ومنها شريحة كبار السن…
جدير بالتذكير لإعطاء كل ذي حق حقه، ان والي اريانة الأسبق كان اول من تفطن إلى “خيوط العنكبوت” القذرة التي تحاول مد شبكات التهريب و تدمير الشباب و حتى أطفال تونس… وكانت له الشجاعة والوطنية لكنس جل الاكشاك المدرجة ضمن منهجية واضحة المعالم… فما كان من الانتشار الاجرامي المتمثل في ترويج عدد من أصناف المخدرات إلا أن انكمش في جحوره ..
اليوم هناك شعور جدي بأن الحرب على المخدرات قد انطلقت بفضل قرارات لا تقل صرامة عن مواجهة الإرهاب… لكن هل ان ايقاف بعض المروجين وحشرهم بالسجن سيقضي على الآفة بالبلاد؟؟ ان من يعرف بدقة عقلية المهربين و السلسلة الممتدة من الاباطرة المروجين إلى باعة التفصيل بالأحياء الشعبية والمرفهة وحتى الريفية كما ذكرنا، يدرك حجم الجهد الذي ينتظر الإطارات الأمنية و الجمركية و المصالح الاستخباراتية للانتصار على آفة هي الأشد خطورة بين كل الآفات… لذا، صار لزاما لإنجاح هذه المقاومة الباسلة التي تشنها أجهزتنا:.
اولا، ضرورة مراجعة التشريعات المتعلقة بالتهريب لا سيما في ما يتعلق بتهريب المخدرات والاسلحة والأموال، وهذه المراجعة المطلوبة يجب أن تستبعد منها اية صيغة صلحية.
ثانيا، تحديد عتبة دنيا للخطايا لا يقل عن 30 الف دينار ولو كانت الكمية صغيرة.
ثالثا، مصادرة كل أملاك المروّج او المهرب للمخدرات واملاك اصوله وفروعه وقرينه الا ما ثبت عن طريق قانوني.
رابعا، ترفيع الأحكام السجنية إلى اقصى ما في القانون الجنائي للأفراد، أما بالنسبة لمحلات بيع التفصيل فإنه يستوجب الغلق حال إثبات التهمة، زيادة على الخطايا الباهظة والعقاب البدني،
خامسا، تكثيف المراقبة على الحدود وتفتيش نقط العبور الرسمية وغير الرسمية وجمع أكثر ما يمكن من المعلومات حول شبكات إدخال المخدرات وترويجها ووضع المعنيين تحت المتابعة الأمنية مهما كانت صفتهم أو صفة من يحتمي بهم أو من يدافع عن “حقوقهم” تحت أي عنوان.
سادسا، إجراء رقابة صارمة على الأعمال الفنية التي تمجّد ترويج أو زراعة أو صناعة أو استهلاك المواد المخدرة، أو تطبّع مع هذه الظواهر أو تطنب في عرض مشاهدها أو سيرتها مهما كانت الذريعة التي يتم الاستناد إليها، وإجبار هذه الأعمال على اختصار تلك المشاهد أكثر ما يمكن والاقتصار غالبا على الإيحاء، مع إدانة ذلك بجلاء في الحوار والسيناريو، والحرص على عدم تحويل المروّجين والمدمنين إلى أبطال ونجوم يقتدي بهم الشباب.
سابعا، اي تخاذل من جهة رسمية أو توفير غطاء او تمرير للمخدرات يجب أن يقود إلى حبس الأعوان أو الإطارات المتورطة و قبله الطرد من الخدمة، مع تحديد خطايا موجعة ومتناسبة مع خطورة الجرم
وفي صورة توفر هذه العناصر واكتمالها، يمكن للبلاد أن تتخلص يصفة كبيرة من داء معشش بين ثناياها، وبذرة شيطانية تعاقبت على زرعها أجيال من أفسد الحكام وأبغض المحتلين… وكانت ذروة هؤلاء، المؤامرة العظمى التي فتكت بشعبنا بين سنتي 2011 و2022.
محمد الزمزاري:
التاريخ:
ترسخ وجود المخدرات منذ القرن السابع عشر وربما قبل ذلك بقليل وسجل مزيدا من التطور أيام الدولة الحسينية بأماكن عديدة من تونس والمغرب العربي في ظل تخلف حكم البايات الذي كان اهتمامه الأكبر بالجباية و محق كل قرية او قبيلة ترفض دفع الضريبة السنوية.
وقد جند البايات لذلك فرقا وقيادات دموية متوحشة. من ذلك تم تدمير بلدتين كاملتين بالجنوب التونسي رفض أو عجز أهلها عن دفع الضرائب المسلطة (طرة و جمنة من ولاية قبلي التي كانت تابعة إلى عمالة توزر)… في نفس الفترة ازدهر المجون لدى الطبقات الأرستوقراطية بالبلاد كما انتشرت زراعة “التكروري” في عديد الجهات وسط مزارع الطماطم والفلفل والتبغ… ولم يكن ذلك ممنوعا بل انه بداية من احتلال تونس سنة 1881 شجع المستعمر تداول واستهلاك التكروري في جميع الجهات بالبلاد وربما اهمها مناطق الوطن القبلي وبنزرت والجنوب التونسي، لكن الإدمان على”الزطلة” او الحبوب المخدرة او الماريخوانا او غيرها لم تصل إلى تونس وقتها …
موقف بورقيبة من المخدرات:
خلال سنة 1957 اي في بدايات الاستقلال اقترح بورقيبة وضع او تغيير تشريعات بخصوص استهلاك المخدرات وخاصة “التكروري” وهدد بالسجن لمدة خمس سنوات كاملة كل مروّج او مستهلك للتكروري إيمانا منه باضرار المخدرات على الاجيال التي ستصنع تونس. وقام بورقيبة بمبادرة ناجعة للقضاء او على الاقل للتقليص من زراعة التكروري او ترويجه او استهلاكه، عبر تكوين فرق جهوية ومركزية تجمع اطارات ومتفقدين من وزارة المالية و الداخلية (حرس وطني خاصة) وتقوم هذه الفرق بتفقدات وأبحاث فجئية للبساتين وحقول الزراعات الكبرى لاصطياد المخالفين ورغم ان آفة التكروري عندها لم تنقطع، فإن الخوف من العقاب المتعلق باستهلاك او زراعة التكروري قد عم البلاد رغم التجاء البعض الي زراعة المخدرات المذكورة بالابار والسطوح والجبال.
ماذا عن عهد بن علي؟
عرفت فترة حكم بن على عودة قوية لانتشار المخدرات و شهدت البلاد نقلة نوعية متمثلة في ولادة عصابات منظمة داخليا و خارجيا بالتعاون الوثيق مع المافيا الإيطالية. ولعل مقتل منصف شقيق بن علي كان في إطار ما نسب لصراع العصابات العالمية لدى البعض فيما يعتبره آخرون تصفية داخل هذه المافيات. ازدهرت المخدرات وتفاقم انتشارها و برزت عصابات منظمة للتهريب و الترويج و توسعت بؤر البيع عبر أنحاء البلاد الا انها تبقى محدودة مقارنة مع الوضع الذي وصلت فيه بعد ثورة 2011.
بعد بن علي:
خلال أيام الانتفاضة سنة 2011 سادت حالة الفوضى العارمة التي عمت البلاد و فتحت الحدود البرية والبحرية على مصراعيها أمام المهربين من كل الأصناف من استجلاب المخدرات إلى ترويجها بكل المدن و دخول كميات كبيرة من الأسلحة التركية من بندقيات الصيد التي تباع بصور شبه علنية بمئات الدنانير وبعض انواع المسدسات (بيريتا) رغم الجهود اللاحقة من المصالح الأمنية و الديوانية…. وشهدت أشهر ما بعد الانتفاضة عمليات ممنهجة لترويج السموم في كل مكان من البلاد في ظل ضعف السلطة التنفيذية و السياسية خاصة…
ـ يتبع ـ
استطلاع
صن نار
- ثقافياقبل 4 ساعات
صاحب دور “يوزرسيف” في تونس
- جور نارقبل 19 ساعة
ورقات يتيم … الورقة 86
- ثقافياقبل يوم واحد
الإبداع الأدبي والفكري التونسي في الصالون الدولي للكتاب بالجزائر
- صن نارقبل يوم واحد
الحوثيون يستهدفون قاعدة للاحتلال قرب حيفا
- ثقافياقبل يومين
كسرى: الدورة الثالثة لملتقى “سينما الذاكرة”
- جور نارقبل يومين
آفة المخدرات بتونس: التاريخ… والتوسع… والحلول (2)
- رياضياقبل يومين
معين الشعباني يواصل تصدر البطولة المغربية
- صن نارقبل يومين
اختتام المؤتمر الدولي للطب وعلوم الرياضة