يوم نجحت في مناظرة مواصلة دراستي بالمعهد الوطني للعلوم السمعية البصرية بباريس وكان ذلك في نهاية مارس 1976 …يومها انتقلت لمطار تونس قرطاج، ورافقني المودّعون من الاهل والاصدقاء ومن بينهم والدتي رحمها الله …
اتممت الاجراءات وهممت بالدخول الى بهو قاعة الانتظار في انتظار الحافلة التي ستتكفّل بنقلنا الى مدرج الطائرة .وفجأة رأيت الوالدة تبكي دون دموع ..عدت اليها كطفل يرفض مقاطعة حضن امّه ..كيف اغادر وعيّادة ـ والدتي ـ ليست عيّادة التي اعرفها ..عيّادة الكاريزما والصبر والثبات لم اجدها ..ضاعت ..فضيّعتني وتاهت فتوّهتني .. مسكت يدها المرتعشة وسألت ..قولي يا امّاه ما الخطب .. وبحنّية الأم حاولت ايهامي بأنّ لا شيء سوى بعدي عنها .. طبعا لم اقتنع واعدت مسك يدها هذه المرّة وبكلّ اصرار … واقسمت لها انّي لن اغادر تونس ولن اغادر المطار ان لم تفصح عن السبب الحقيقي لدموعها التي لم تنزل امام الجميع ولكنّها نزلت حارقة في كلّ شراييني ..
ولانّها تعرف جيّدا طفلها و (كسوحية راسو) وانّه يفعلها وبسهولة .. تنهّدت وقالت ..تعرفها وليدي هاكي غناية بنت الروميّة ؟؟ واجبت: عمري ما سمعت بمغنّية اسمها بنت الرومية .. ابتسمت ابتسامة هي بطعم الدموع ورائحتها وقالت ..لا لا ..الاغنية التي تقول (يا ربّي سيدي اش عملت انا ووليدي .. ربيتو بيدي وخذاتو بنت الرومية)، وهنا اردفت: اه تقصد غناية نورا الجزائرية ؟ … كيف اصف لكم ردّ فعلها ؟ هي لعجت عليّ دون ان تتكلّم لعجت عليّ بنظرة لست ادري كيف اصفها ..عيّادة رحمها الله لو كانت من هذا الجيل (اللي يالندرة كيفاش) لكان ردّها من نوع: اشبيك تميّع في القضيّة يا برو ..لاني كنت ابنها وصديقها وكلّ الدنيا …
وبسرعة تداركت موقفي الماسط وقلت لها ..عيادة خايفة من كريمها ان يقع في شباك فتاة اوروبية هنالك فينسى اهله وحارته ومدينته وبلده وينسى عيّادة ؟؟ تأوّهت وقالت ..هكّة قالولي ..قبّلت يدها بكلّ حبّ وعشق ونظرت اليها مليّا وسالتها ..عيّادة جابت راجل او طلطول ؟؟ وبكلّ لهفة وعمق وايمان قالت ..جبت راجل وسيد الرجال .. اعدت تقبيل تلك الايادي التي لم املّ ولم ارتو من تقبيلها طيلة وجودها في حياتي، ونظرت الى عينيها المتلهفتين لاجابتي وقلت ..اطمان على ولدك …لن تستطيع ايّة فتاة لا شرقيّة ولا غربيّة ان تنسيني عائلتي وحومتي ومدينتي وبلدي …
سافرت ودرست وفي ختام دراستي اغراني مدير شركة سينمائية للعمل معه ولمدّة خمس سنوات وبعقد خيالي ..شكرته وقلت له ما عرضته عليّ هو بمثابة الكنز ولكن هنالك في بلدي كنوز لا تُقدّر بثمن ..كلّ ما في بلدي جواهر تهزأ بكلّ جواهر العالم ..اذ علاوة على امّي وعائلتي واصدقائي اين اجد الورد العربي خارج بلدي ؟؟ اين اجد الخزامة والحبق ونوّار عشيّة ؟ اين اجد صبارص الشابّة وامّيلة قرقنة وعلّوش سيدي بوزيد ؟؟ نعم العراق هو بلد المليون نخلة ..نعم تذوقت كلّ انواع التمور في البلدان العربية والغربية ولكن لم اجد يوما هنالك بلحا من نوع بوحطّم او الكنتيشي .. اين اجد السي اس اس ؟؟ فحتى اليوفي لا تغريني امام عشقي المهبول لفريقي ؟؟ اين اجد بحر المناقع وهو من اجمل البحار التونسية والواقع بين قصور الساف وسلقطة ؟ اين اجد شغب ابناء بلدي ؟ اين اجد جلبة الناس في الشوارع والانهج والطرقات ..هي بالنسبة لي سمفونيات لم يستطع لا بيتهوفن ولا فيفالدي ولا شوبان الاتيان بمثلها ..
التعلّق ببلدك او ببلدتك له طعم خاص ولون خاص وعشق خاص.. في بلدتك وانت عاشق لها ومتشبث بها تصبح المساوئ محاسن .. لانّ بلدك يصبح جزءا من تنفسك ..وفي التنفس نستنشق الاوكسجين وننفث غاز الفحم ..هكذا تعلّمت في مادّة العلوم وانا طفل ..وانا من فئة الاطفال الذين لم يكبروا بتاتا …كلّ ماذكرته يمكن لايّ منكم اسقاطه على حياته في عائلته وفي حومته وفي بلدته ..تتغيّر العادات وانواع المأكل والمشرب ولكن يبقى طعم البلد واحد ورائحته واحدة .. وموسيقاه واحدة وحتّى بلادة البعض وركاكتهم واحدة ..وما قيمة الضمار ان لم يتقيّا الواحد منّا ببلادة ومساطة وركاكة ؟؟ الم نتفق انّ الاشياء تُعرف باضدادها ؟؟
هذه المقدّمة والتي لو جاءت في موضوع انشاء لسخطني المعلّم بالملاحظة المعهودة ..مقدمتك طويلة يا سي الشباب ..موش قداش من مرّة قلتلك اختصر المقدمات وادخل في صلب الموضوع …وهنا اغتنم الفرصة صديقنا وكبيرنا فيكتور هيغو وصحا من غفوته وقال ..ايّة هات الرسمي ..وين البؤساء عدد 2 متاعك .. تبسمت في حياء واجلال للشيخ فيكتور وقلت له مهلا سيّدي لو عرفت السبب لبطل العجب …وطفقت في طرح جوهر الموضوع … قلت يا سيّد فيكتور في عائلتي واصدقائي وبلدي هنالك من يشتري الحبّ بالعذاب ..هنالك من يغادر بلده طوعا ليشتري اوضاعا افضل … ولكنّه يشتري الحرمان من صبارص الشابة واميّلة قرقنة وبقية القائمة ..قد اتفهّم اوضاعه المقيتة والمؤلمة وخاصّة بعد غورة 14 جانفي 2.011 ..حيث لا شغل ولا حرية ولا كرامة وطنية الموعودون بها والتي افقنا يوما واكتشفنا انّها ليست فقط شعارات زائفة بل تحوّلت الى كوابيس ..
وطبعا امام هذا الواقع الاليم وجد العديد من التونسيين انفسهم مجبرين على الهجرة … وهنالك هجرة من طراز آخر هجرة الهاربين من تونس لملّفات تعلّقت بهم وخاصة اولئك اللصوص السياسيون الذين عاثوا في تونس فسادا ..وهنا اندهش جدا من بطاقات الجلب التي صدرت في شأنهم ..تلك الفئة تعيش اقسى عقاب لانها مهما عاشت البذخ بفضل مموليها فانّها ابدا بل يستحيل ان تعيش سعادة رائحة البلد وطعم البلد ..اذن لا تجلبوهم دعوهم هناك وهو اشدّ عقاب … دعوهم وسيكتشون طال العمر ام قصر انهم اتعس البؤساء …
امّا بالنسبة إلى الفئة الاولى التي اجبرت على الهجرة لتحسين ظروفها عليها ومن ضمنهم ابني المهاجر منذ بضع سنوات، اهمس بكلّ لطف ولين وحبّ لاقول .. عليك وعلى الجميع امثالك ان تتعلّموا شيئا هاما في تقديري … هجرتكم عليها ان تكون هجرة ظرفيّة …اعيدوا ترتيب اوراقكم ..اعدّوا العدّة لعودتكم يوما مّا لعائلاتكم ولبلدكم ولاصدقائكم …دون ذلك ستكونون بؤساء وسنكون ايضا ونحن في خريف العمر اتعس البؤساء …