دفءُ نار

الباكالوريا : حوض ولاّد بحجم حوض منجمي… أو أكثر !

بعض الملاحظات السريعة تعقيبا على نتائج هذه السنة

نشرت

في

الإرادة
و الاستثناء

خسرنا جميع معاركنا تقريبا ولا جدوى من المُكابرة والمُغالطة وشتّى أنواع التّمسيد النّاعم. خسرنا معركة إدارة الثورة ومعركة التنمية والتشغيل وصوْن سيادتنا الوطنية وإنجاز الإصلاحات المتأكّدة. خسرنا معركة الكوفيد. خسرنا معْركة انتخاب أناس يشبهون أغلبيّتنا وتصعيد حكومات يكون حرصها على الوطن أكبر من حرصها على امتيازات أعضائها وغنائم مُقرّبيهم.

خسرنا معاركنا كلّها إلا معركة واحدة وقد تكون هي فاتحة كل المعارك : أسمّيها شخصيا معركة الجدار الأخير، جدار العلم والمعرفة والتحصيل ونخبتنا المتميزة في شتى الميادين. وهذا ليس بتمسيد ناعم بل هو حقيقة تُقرّ  بها كبرى الجامعات العالمية وأرقى المخابر العلمية وأكثر شركات الويب 2.0 بحثا عن الكفاءات الدقيقة على النطاق الكوني.

<strong>منصف الخميري<strong>

____ يقول صديقي الدكتور مصطفى الشيخ الزوالي في حديثه عن المُقارنات غير المُثمرة دائما بين الجهات عندما نتناول نتائج الباكالوريا بالدرس “من البديهي أن تكون المناطق “المحظوظة” هي الأولى وطنيا لأنه يرتفع فيها مستوى الموارد المادية ومستوى القدرة على تمويل الدروس الخصوصيّة زيادة على متغيرات عديدة تاريخية واجتماعية وسياسية…” مُستبِقا نتائج هذه السنة بالذّات حيث تحصّل على أرفع النتائج في الرياضيات والآداب والعلوم التجريبية ثلاثة شبان من جندوبة والكاف وهم تباعا مرام المرزوقي وبدرالدين الماجدي وندى الشارني. وما يُغريني في هذه المقاربة أنها تؤكد مرة أخرى أن المصعد التاريخي للتونسيين مازال مُشتغِلا رغم أعطابه، وأن انتصار الأفراد على الحتميات الاجتماعية والثقافية مازال قائما (خاصة عندما نُدرك أن تحقيق تكافؤ ناجز للفرص بين جميع التونسيين قد ينتظر عشرات أو مئات السنين الأخرى). ثم من ناحية أخرى، قد تكون فرصتنا الآن وهنا في تعديل بعض المتغيرات (المقدور عليها ذاتيا) لتحقيق نتائج لا يتوقعها أحد بالمعنى السوسيولوجي التقليدي.

____ المُفارقة التي تمثلها جهة جندوبة باعتبارها مُتذيّلة للترتيب الوطني من ناحية ولكن الأولى فرديا في الرياضيات والآداب تؤيّد حسب اعتقادي فكرة أن الاستثناء الذي مثلته مرام المرزوقي وبدرالدين الماجدي يؤكّد قاعدة أن النجاح حصيلة منطقية عندما تجتمع جملة من العوامل الفردية والذاتية الصلبة التي تتحدّى شراسة الظروف المحيطة والبيئة المعادية.  وما يجب أن يقال هنا أيضا أن أسفل الترتيب تؤثّثه 8 ولايات لها تقريبا نفس النّسب، وبالتالي فإن الوقوف عند الترتيبات الشكلية المعمِّمة لا يمكن أن يدفع باتجاه فهم شامل لظواهر النجاح والفشل المدرسيين.

____ ثمة حقيقة موضوعية مُنعشة وحمّالة أمل تتمثل في أنه مازال وسيظلّ لدينا نواة صلبة من المعلّمين والأساتذة الأكفاء في كل جهات البلاد  وفي كل الاختصاصات قادرين – رغم الإكراهات العديدة- على اجتراح أكبر النجاحات وأرفعها وإقدار فئات واسعة من الشباب صعب المِراس على مواجهة امتحان وطني انتقائي للغاية في مدرسة عمومية ظلت واقفة رغم كل ما اعتراها من وهن وخذلان أتاهما السياسيون ورغم تحوّلها إلى مدرسة تكاد تكون خاصة لأن أرقام المعاملات المالية خارج أسوارها والخاصة بدروس المستودعات تفوق بكثير الأرقام المتداولة في القطاع الخاص.

ملاحظة : أنتمي شخصيا إلى فئة الذين يعتبرون أن هنالك مناطق ضوء في بلدي لم يطلها إلى حد الآن ظلام الفساد ودهْس الناس المُتعبين (مثال الباكالوريا وغيرها من عديد الاستحقاقات الوطنية الأخرى).

____ نجاح بناتنا بنسبة 67 بالمائة مقابل 33 بالمائة فقط للذكور (وهو مشهد غير بعيد عن نسبة تمدرس البنات في الجامعات مقارنة بالذكور) لتونس فيه درس لا بد من استخلاصه، وهو كونه يعكس تقلص مساحات اللّهو لدى البنات مقابل الانجذابات المختلفة التي تُشوّش على الشبان من ناحية والتقاليد الحديثة التي اكتسبها أغلب التونسيين في علاقة بتمدرس بناتهم ونظرتهم لهنّ باعتبارهن مساويات لإخوتهم والتغلب على النظرة الدونية تجاه المرأة التي سادت قرونا لدى العرب والمسلمين عموما. بالرغم من أن هذا الاختلال في تساوي حظوظ الذكور بالإناث ليس وضعا سويّا ولا بد من تداركه. إضافة إلى كل ذلك من المؤكّد أن هذا التفاوت يُخفي حقيقة مُرعبة تتمثل في الانقطاع المكثّف للذكور قبل بلوغ مراحل دراسية متقدمة.

____ قرأت خلال الأيام الأخيرة تدوينة لفتاة تونسية متألقة اسمها نسرين شعبان اجتازت امتحان الباكالوريا عام 2017 ولم تحصل على المعدل المأمول الذي يؤهّلها لنيْل مقعد بإحدى كليات الطب فأصيبت بما يشبه الانتكاس والصّدمة المُعيقة، لكنها في نطّة أمل قررت أن تتابع دراستها في إطار إجازة أساسية في العلوم الفيزيائية ثم تحصلت بحكم تميزها ونجاحها في اجتياز مناظرة على منحة وطنية للدراسة للالتحاق فيما بعد باختصاص النانوفيزياء والتفوق فيه. ما هو صادم حقا في حديث نسرين أنها أولا لم تُلقِ بالفشل في الحصول على معدل مرتفع في الباكالوريا لا على الأساتذة ولا على البرامج ولا على المحسوبية أو غموض مقاييس الإصلاح كما يفعل الكثيرون، ثم هي تقول ثانيا “لو تحصلت في 2017 على المعدل الذي حلمت به لما كنت سعيدة مثلما أنا سعيدة اليوم بنجاحي وتفوقي…”. أعتقد أن الدرس الأهم في كلامها هو أن “المعدل ليس هو المتغير الأهم، وعالم الدراسة والبحث يتسع للجميع، لأصحاب المعدلات العالية كما لأصحاب المعدلات المتوسطة تماما.

___ صفاقس هي الأولى تاريخيا في إحراز أفضل النتائج المدرسية. وفي هذا السياق يطيب لي أن أروي لكم واقعة المديرين الأجانب الذين يأتون إلى تونس سنويا لانتقاء المتفوقين في الباكالوريا. وقد جرت العادة في وزارة التعليم العالي أن يخصص اليومان الأخيران من فترة تواجدهم إلى زيارة مواقع سياحية أو ثقافية تونسية. طلبوا أن يزوروا مدينة صفاقس بدلا من المناطق الشاطئية والأثرية التقليدية بغية محاولة التعرف على طبيعة البيئة الاجتماعية والثقافية والتربوية التي جعلت من أبناء صفاقس وبناتها هم الأكثر عددا دائما مقارنة بالولايات التونسية الأخرى الذي يفتكون مقاعد بهنري IV وسانت جونفييف ولوي لوغران وهوش… زاروا صفاقس وعادوا بخُفّي حُنيْن…ربما لأنهم لم ينبشوا بشكل متأنّ في الخفيّ (كما يقول صديقي سامي الحبيب) … فإذا كان التلميذ هناك هو نفس التلميذ التونسي في كل الجهات والأساتذة هم الأساتذة والبرامج هي البرامج والمصحّحون من خارج صفاقس قانونا (حتى نُحيّد عامل التعاطف الجهوي)… يبقى السرّ حسب رأيي في نموذج العائلة وموقع قيمة العمل والجهد ودور الأم أساسا وبعض المتغيرات الأخرى التي لا يتّسع لها هذا المجال.  

____ وأُنهي ورقتي هذه بالقول إن الكلام الذي صرّح به السيد وزير التربية قُبيْل الإعلان الرسمي عن نتائج الباكالوريا والذي مفاده أن هذه النتائج تعتبر مريحة ومُطمئنة أعتبره شخصيا كلام إنسان يبحث عن نوع من الرضى القابل للاستثمار السياسي لاحقا (مثله مثل جميع وزراء الحكومات المتساقطة) ولا يعطي أي قيمة لهوْل الحريق الذي تُخفيه النتائج المُدبلجة.

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version