تابعنا على

جلـ ... منار

البحث عن سعيد مهران

نشرت

في

بعد ستين سنة من مقتل السفاح “محمود أمين سليمان” مطلع ستينات القرن الماضى، التى استلهمها نجيب محفوظ فى بناء شخصية “سعيد مهران” بطل روايته “اللص والكلاب”،

عبد الله السنّاوي
<strong>عبد الله السنّاوى<strong>

نسبت الصفة نفسها إلى رجل آخر “عبدالرحمن دبور”، الذى هزت جريمته الرأى العام ببشاعة مشاهدها المصورة، كما لم يحدث من قبل.

جرى كل شىء ــ هذه المرة ــ فى عرض الطريق العام بمدينة الإسماعيلية، أمام المارة وتحت رقابة الكاميرات، ذبح مواطناً بساطور وتجول برأسه فى المكان حتى تمكن منه المارة.

انتشرت المقاطع المصورة على شبكة التواصل الاجتماعى، خضعت الحادثة لتغطيات موسعة غير معتادة وسجلت شهادات من موقع الحادث، اختلطت المعلومات بالشائعات، وبدا المشهد كله أقرب إلى محاكمة مبتسرة أمام الرأى العام،

بعض الكلام ثابت عن تعاطيه مواد مخدرة يوم الواقعة، وبعضه الآخر غير مدقق إذا ما كانت “جريمة شرف” أم لا ؟!

بأية إطلالة عابرة على صفحات الحوادث فإننا أمام مجتمع يتحول ويتفاعل وتنشأ داخله ظواهر مستجدة فى الجريمة دون أن تخضع لدراسة حقيقية.

حادثة الإسماعيلية إشارة خطر تستدعى محاكمة المجتمع، قبل “دبور”، لندرك مواطن الخلل فى بنيته وما قد تئول إليه مستقبلا.

فى “اللص والكلاب” حاكم نجيب محفوظ المجتمع، قبل السفاح.

بأية محاكمة عادلة مصير “دبور” معروف سلفاً، فالجريمة البشعة علنية ومصورة، وهو معترف أمام النيابة بارتكابها، ولا يوجد من هو مستعد أن يبدى أدنى تعاطف معه حتى داخل أسرته نفسها.

بمضى الوقت سوف يتراجع حجم التغطيات الإعلامية للحادث المروع، غير أن مغزاه الاجتماعى سوف يبقى فى مسرح الجريمة: لماذا توحش العنف إلى هذه الدرجة المروعة ؟

وما العمل لتخفيض الكلفة الاجتماعية وحصار أسبابها وآثارها السلبية؟

فى “اللص والكلاب” أجرى نجيب محفوظ على لسان “سعيد مهران” محاكمة تخيلية دافع فيها عن نفسه قبل مقتله بوابل من رصاص الشرطة استسلم له بلا مبالاة :

ــ “إن من يقتلنى إنما يقتل الملايين، أنا الحلم والأمل وفدية الجبناء، وأنا المثل والعزاء والدمع الذى يفضح صاحبه، والقول بأننى مجنون ينبغى أن يشمل جميع العاطفين فادرسوا أسباب هذه الظاهرة الجنونية واحكموا بما شتئم”.

كانت تلك عبارة كاشفة لفلسفة العمل الروائى كله، مأساة السفاح ومأساة المجتمع نفسه.

انتابت “سعيد مهران”، وهو فى حالة دوار يكاد لا يستبين ما حوله، حالة جنون عظمة، متأثراً بحجم التغطيات الصحفية للجرائم التى ارتكبها والرصاصات الطائشة التى أطلقها ونالت من أبرياء دون أن يصل إلى الذين خانوه.. والكلاب التى تطارده.

استلفت نظر نجيب محفوظ فى قصة السفاح “محمود أمين سليمان” أن قطاعا من المواطنين تعلقوا به ونظروا إليه كما لو كان بطلاً، استلهم القصة الواقعية، وبنى عالماً مختلفاً حاول فيه بحس الروائى العظيم أن يقترب من حقائق مجتمعه وأزماته المسكوت عنها دون أن يقع فى مطبات المباشرة والوعظ والإرشاد.

حاول أن يجيب بقوة الدراما على سؤال: لماذا تعاطفت قطاعات فى الرأى العام مع السفاح “محمود أمين سليمان”؟

كانت رواية “اللص والكلاب”، التى نشرت عام (1961) بتوقيت مقارب لمقتل السفاح، وتحولت إلى شريط سينمائى بالعام التالى، نقطة تحول فى عالمه الروائى أكثر عمقاً فى النظر إلى معنى الوجود الإنسانى وفلسفة الحياة والبحث المضنى عن العدل،

مال إلى النقد السياسى والاجتماعى محذراً مما قد يحدث فى المستقبل القريب.

هكذا توالت وقفاته النقدية بلغة الأدب وقوة الدراما لما قبل هزيمة يونيو: “السمان والخريف” (1962)، “الطريق” (1964)، “الشحاذ” (1965)، “ثرثرة فوق النيل” (1966)، “ميرامار” (1967).

فى المحاكمة المتخيلة، التى أجراها “سعيد مهران” لنفسه، دعا إلى دراسة ما أسماه “الظاهرة المجنونة”، أن يُعجب قطاع واسع من الرأى العام برجل ينتهك القانون وتنال رصاصاته الطائشة من أبرياء.

قبل ستة أعوام أنشئ فى مصر عام (1955) “المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية”، الذى خفت صوته وتأثيره إلى حد افتقاده بالكامل فى جريمة الإسماعيلية المروعة، أو عندما تداهم المجتمع الجرائم المستجدة عليه، أو التى نعتقد أنها مستجدة لغياب البحث والتقصى والمعلومات الأساسية، التى كنا نطل عليها فى أوقات سابقة بدراسات وأبحاث ذلك المركز الرائد، كما تقارير الأمن العام.

فى كل العصور تحظى تقليدياً أخبار الجريمة بنسبة قراءة مرتفعة.

لم تكن المدارس الصحفية المحافظة كـ”الأهرام” تعتنى كثيراً بأخبار الجريمة، لا تنشر فى الصفحات الأولى، ولا تفرد لها أبواباً موسعة.

كادت المدارس الصحفية الشعبية كـ”أخبار اليوم” تحتكر هذا النوع من التغطيات الصحفية، غير أن انتشار الجريمة العنيفة فى تسعينات القرن الماضى، كظاهرة قتل الأزواج بـ”السواطير”، دعا “الأهرام” إلى التوسع فى التغطية وإنشاء باب خاص لمتابعة الحوادث.

هكذا فرضت ظواهر المجتمع نفسها على العمل الصحفى باختلاف مدارسه.

الجديد – هذه المرة ــ أن وسائل التواصل الاجتماعى هيمنت على التغطية بشهادات ومقاطع مصورة تلاحق التطورات دون تدقيق اعتادته الصحافة الورقية والتلفزيونية.

بدورها حاولت السينما أن تلاحق ظواهر العنف فى المجتمع، والجرائم المستجدة بدرجات مختلفة من الجودة الفنية.

كان فيلم “إحنا التلامذة” عملا رائداً أقرب إلى جرس إنذار للأسرة المصرية عند عام (1959)، استوحى مادته الدرامية من تورط أربعة شبان فى قتل صاحب بار، كيف ضاع مستقبلهم؟.. ومن يتحمل المسؤولية؟

كانت تلك وثيقة إدانة سينمائية للمجتمع.

جرت محاولات أخرى مثل “المرأة والساطور” عام (1997) لكنها بدت استثماراً تجارياً فى الظاهرة أكثر من أن تكون رؤية تدخل فى عمق المجتمع ونظرته لأزماته.

فى كل تلك التجارب الأدبية والفنية يظل “اللص والكلاب” عملا فريداً يتحدى الزمن باتساع نظرته وثراء شخصياته.

“لتكن ضربتك القوية كصبرك الطويل وراء الجدران”.

هكذا حادث “سعيد مهران” نفسه، وهو يتأهب للانتقام من زوجته “نبوية”» وصبيه “عليش” الخائنين، قبل أن يضيف إليهما الصحفى “رؤوف علوان” مثله الأعلى الذى تنكر لمبادئه وأفكاره التى لقنها له.

ــ “يسعدنى أن أعمل صحفيا فى جريدتك!.. أنا مثقف وتلميذ قديم لك، قرأت تلالا من الكتب بإرشاداتك”.

كانت تلك محاكمة ساخرة من لص أفرج عنه للتو لـ”للمثقف الخائن”، أو الصحفى الانتهازى، ولمهنة الصحافة عندما تتنكر لقيمها الأخلاقية.

مهما اختلفت العصور ودرجة بشاعة الجرائم تظل رواية “اللص والكلاب” ملهمة لجدوى البحث عن “سعيد مهران”»، أو أن نعرف بالضبط فى أى مجتمع نعيش.

ـ عن “الشروق” المصرية ـ

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جلـ ... منار

الصوت المضيء

نشرت

في

وفاء سلطان:

البارحة نشرت بوستا مفاده ان مقدار سلامك الداخلي هو انعكاس لعملك وإيمانك ونواياك وأفكارك وصداقاتك وعلاقاتك ونجاح اسرتك.

وفاء سلطان

فكرة البوست ولدت بعد محادثة على الخاص مع شخص لم أكن أعرفه من قبل، شخص متدين جدا جدا،

ولكنه كان مهذبا ولطيفا، لسبب واحد التقطته من خلال الحديث ألا وهو أن لديه شكوكا بطبيعة ما يؤمن به

أراد أن يجرني لأفصح عن كل ما أعرفه بهذا الخصوص، لأن ما أقوله راح يغوص في تلافيف دماغه ويحرك شيئا عنده.

في سياق الحديث قلت له: أشعر أنني أسعد امرأة في العالم، والشخص الأكثر سلاما

فردّ على الفور:

بعكسي تماما فحياتي قاسية جدا، وتابع: أعيش وأشعر أن كل شخص يتعامل معي بوحشية لأنني إنسان طيب وأخاف أن اؤذي أحدا.

قلت: الطيبة لا تعني أن تترك الوحوش تنهشك!

فردّ: أخاف من الله

قلت: ومتى كان الدفاع عن النفس ضد مشيئة الله؟

لن أخوض أكثر في بقية الحديث، لكنني أود أن أعلق على ما سبق وذكرته منه.

عندما أقول أنا أسعد امرأة في العالم والأكثر سلاما، لا أقصد أنني لم أحزن ولم أتألم، فالحزن والألم جزء من الطبيعة البشرية وعامل فعّال في ديناميكية الحياة.

الحزن ليس الوجه المغاير للسعادة، بل التعاسة هي ذلك الوجه.

نعم، لم أشعر يوما أنني تعيسة، ولكنني حزنت مرارا كردّة فعل على حدث ما.

الحزن شعور عابر يثيره حدث مؤلم، أما التعاسة فهي حالة عقلية دائمة تستنزف طاقة البشر وتحولهم إلى

دمى لا حياة فيها، يشعرون عندها أن لا قيمة ولا فائدة لوجودهم

بالمناسبة، استطيع ان أعمّم وأقول: لم أصدف في حياتي متدينا مهووسا وخضت قليلا في حياته إلا واكتشفت أنه تعيس إلا حد الاستنزاف، والإفراط في تدينه ليس أكثر من وهم، وهم يشبه إلى حد بعيد وهم الغريق عندما لا يجد سوى قشة فيتعلق بها.

الإنسان يملك إرادة حرة وهي وحدها، ولا شيء غيرها، ينقذه من تعاسته

أما الله فهو صوت الضمير في أعماقه، ذلك الصوت الذي يعزز إرادته ويضيء له الطريق

ولقد أضاء لي الطريق حتى صرتُ أرى ثقب الإبرة خلال لحظة ظلام دامس

فأدخل فيه الخيط كي أشبك جروحي وجروح الآخرين

Motif étoiles

أكمل القراءة

جلـ ... منار

“هابرماس”… والعدوان على غزّة

نشرت

في

عبد الله السيد ولد اباه*:

يورغن هابرماس” هو بدون شك أهم فلاسفة الغرب الأحياء وقد وصل سنّ الرابعة والتسعين، وأصدر عشرات الكتب الفلسفية والاجتماعية الهامة، آخرها كتابه المرجعي في تاريخ الفلسفة من مجلّدين.

لقد كتبتُ حوله الكثير وصحبتُ أعماله الفكرية منذ مطلع الثمانينات، بيد أنّ الحديث اليوم يتعلّق بالموقف الذي عبّر عنه في عريضة وقّعها باسمه مع آخرين، بخصوص الأحداث المأساوية التي تمرّ بها غزّة حاليًا.

ما استوقفني في العريضة أمران، أوّلهما التأكيد على “شرعية” العدوان الإسرائيلي على سكّان غزّة من منظور “حق الدفاع عن النفس”، وثانيهما القول بأنّ اتهام إسرائيل بشنّ حرب إبادة ضد الشعب الفلسطيني مظهر من مظاهر العداء للسامية!

لم يذكر في العريضة أيّ شيء عن الاحتلال الإسرائيلي وحق المقاومة الفلسطينية الذي تكفله المواثيق والقوانين الدولية، ولم يتم الاعتراف بجذور وخلفيات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الذي لم يبدأ يوم 7 أكتوبر.

لقد استغرب الكثيرون مواقف الفيلسوف الألماني العجوز الذي يقدّم نفسه بكونه آخر مدافع عن تركة التنوير والحداثة الإنسانية، وأكبر معارض لليمين المتطرّف في أوروبا والنزعات الشعبوية العنصرية المتنامية في القارة. والواقع أنّ هابرماس لم يُخفِ يومًا من الأيام نزعته المركزية الغربية، من خلال الصراع المحتدم الذي خاصه ضد الأفكار التفكيكية والنقدية في الفلسفة الغربية من نيتشه إلى هايدغر وفوكو وديريدا.

ما حاربه هابرماس لدى هذا التيار الواسع الذي يصفه بالعدمي هو التشكيك في السردية العقلانية التنويرية لأوروبا الحديثة، برفض القول بالخلفيات السلطوية والإقصائية في الخطابات المعرفية والعلمية التي تدعي الكونية الموضوعية والمحايدة.

وعلى الرغم من تشبث هابرماس بالأنموذج التواصلي المفتوح القائم على التداول البرهاني الحر، إلا أنه في الحقيقة لم يسعَ يومًا إلى اكتشاف الثقافات الأخرى، بما يبرز جليًا في كتابه الأخير حول تاريخ الفلسفة الذي ينطلق فيه من مركزية اللاهوت الأوروبي في تشكّل المنظومات الفلسفية.

ما علاقة هذا التوجّه الفلسفي بتعاطفه مع إسرائيل وتنكّره لحقوق الشعب الفلسطيني الذي يتعرّض لحرب إبادة جماعية غير مسبوقة؟

العلاقة واضحة، وهي أنّ هابرماس عاجز عن التفكير خارج مقاييس الكونية الغربية حيث تشكّل الحالة الإسرائيلية امتدادًا طبيعيًا للسياق الأوروبي، ومن هنا إشارته إلى حساسية موضوع المحرقة اليهودية بالنسبة لألمانيا، وكأنّ الشعب الفلسطيني مسؤول عن هذا الحدث الذي تمّ في العمق الأوروبي.

الغريب أنّ هابرماس المدافع بقوة عن الشرعية المعيارية الإجرائية التي هي أساس المدونة القانونية الحديثة والمتشبث بعقلانية المجال التواصلي خارج أي تدخل للمرجعيات الدينية المقدسة، لا يشعر بالتناقض وهو ينحاز لأخطر الأنظمة اليمينية المتطرّفة حيث تتحالف الصهيونية الدينية المتشدّدة مع الأحزاب العنصرية الفاشية .

وصفه الفيلسوف الألماني “بيتر سلوتردايك” بأنه “السليل الأخلاقي للنازية”

لقد تعلّل هابرماس بما أسماه استثناء الديمقراطية الإسرائيلية، دون أن يقف عند المرجعية المسيانية للدولة التي حصرت هويتها القومية في مكوّنها اليهودي، بما يعني إقصاء خمس سكانها وهم من نسيجها المسلم والمسيحي الأصلي، كما أقامت في المناطق المحتلّة نظام تمييز عنصريًا لا يختلف في شيء عن حالة جنوب إفريقيا السابقة حسب إقرار رئيس الموساد السابق تامير باردو.

كيف يمكن الحديث عن دولة ديمقراطية تقوم على العنصرية والتطهير العرقي، وترفض معايير المواطنة المتساوية وتكرّس الاحتلال الاستيطاني؟

لقد وصف الفيلسوف الألماني “بيتر سلوتردايك” مفكّر التواصلية هابرماس بأنه “السليل الأخلاقي للنازية”، ويعني بهذه العبارة أنه ينتمي للفكر نفسه والمرجعية النظرية نفسها وإن اعتمد قاموسا أخلاقيًا عقلانيًا. هل يمكن من هذا المنظور لفيلسوف أوروبا الكبير أن يستوعب المأساة الفلسطينية التي هي بالفعل حرب إبادة حقيقية، وكل من يبررها هو شريك في العدوان والمذبحة؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*فيلسوف وباحث وكاتب وأكاديمي موريتاني

أكمل القراءة

جلـ ... منار

ترامب الثاني: انتظار الفاشية خلف انتصار الـ”ماغا”!

نشرت

في

صبحي حديدي:

بعد الهزيمة المدوية التي مُني بها الحزب الديمقراطي الأمريكي، في شخص مرشحته للرئاسة كامالا هاريس ومقاعد مجلس الشيوخ في وست فرجينيا ومونتانا وأوهايو؛ لم تكن مفاجأة أن النقد الأوضح لخطّ الحزب واستراتيجيته أتى من أحد كبار “المشبوهين المعتادين” القلائل جداً في نهاية المطاف: السناتور برني ساندرز.

صبحي حديدي

ساندرز” يعتبر نفسه مستقلاً، ولكنه ينضوي ضمن تجمّع الديمقراطيين في مجلس الشيوخ ولا ينأى عنهم إلا في مناسبات قليلة؛ لأنه، في واقع الأمر، محسوب عليهم في أعمّ المناسبات.

ما يقوله ساندرز اليوم ليس جديداً من حيث المبدأ، أو هو لا يتصل أساساً باندحار هاريس والحزب الديمقراطي، لأنّ إهمال أولويات الطبقة العاملة، كما يساجل ساندرز اليوم، ليس خياراً طرأ على الديمقراطيين خلال الأشهر القليلة التي أعقبت عزوف جو بايدن عن الترشيح وصعود نجم هاريس؛ بل هو قديم ومتقادم وجزء لا يتجزأ من الشطر الرأسمالي في فلسفة الحزب الديمقراطي، على غرار الحزب الجمهوري وإنْ بفارق هنا أو هناك. كذلك يحيل ساندرز بعض أسباب الهزيمة الأخيرة، بل يوحي ضمناً بأنها الأبرز: “بينما دافعت قيادة الحزب الديمقراطي عن الأمر الواقع، كان الشعب الأمريكي غاضباً وأراد التغيير. وكان على حقّ”.

ليس تماماً، أو على الأقلّ ليس بمعدّل 71.7 مقابل 66.8 مليون ناخب، والفوز في التصويت الشعبي للمرّة الأولى بالنسبة إلى مرشح جمهوري منذ سنة 2004؛ و295 مقابل 226، في المجمّع الانتخابي؛ وليس في 27 مقابل 18، على صعيد الولايات؛ وليس وقد اتضح أنّ أداء هاريس كان أضعف من أداء بايدن 2020 في كلّ الولايات… التأزم، استطراداً، أبعد من مجرّد “غضب” شريحة من الشعب الأمريكي؛ والهزيمة هذه ليست أقلّ من فصل جديد في مسلسل طويل من انتقالات عاصفة وتحوّلات كبرى يعيشها المجتمع الأمريكي، فلا تقتصر على الحزبين الديمقراطي والجمهوري وحدهما، بل تمسّ سائر فئات الشعب وطبقاته، على أصعدة شتى اجتماعية ــ اقتصادية، ثمّ سياسية ومعنوية وأخلاقية وثقافية، وسواها.

في الوسع الابتداء من حقيقة أولى بسيطة، ماثلة للعيان وأوضحتها أنساق التصويت الاجتماعية والجغرافية والعُمْرية، مفادها أنّ الولايات المتحدة بعد 248 سنة على إعلان استقلالها ليست، بعدُ، مستعدة لانتخاب امرأة إلى منصب الرئاسة؛ وهيهات، تالياً، أن تكون جاهزة لانتخاب امرأة من أصول مهاجرة، آسيوية وسوداء البشرة في آن معاً. وفي باطن هذا المعطى الأول لوحظ أنّ تصويت المجموعات الهسبانية ذهب إلى ترامب بمعدّل 45 بالمائة، رغم التصريحات العنصرية البغيضة التي شهدتها بعض تجمعات ترامب الانتخابية، على مسمع ومرأى منه (كما في تعليق توني هنشكليف ضدّ بورتو ريكو بوصفها “جزيرة القمامة” مثلاً)؛ وهذا فضلاً عن أغلبية عالية لصالح ترامب في أوساط الرجال، لاعتبارات ذكورية لا تخفى.

وجهة أخرى في استدلال مغزى مركزي خلف الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة هي تلك التي تبدأ من تصريح ترامب، خلال خطبة انتصاره، بأنّ الـMAGA (مختصر للحروف الأولى من شعار ترامب الانتخابي باللغة الإنكليزية: جَعْلُ أمريكا عظيمة مجدداً) هي ‘أعظم حركة سياسية في التاريخ’؛ ليس لأنها كذلك بالفعل، فهي أبعد ما تكون عن أيّ طراز من العظمة حفظه التاريخ، بل لأنّ مكوّنات الاستيهام فيها حرّكت عشرات الملايين خلف ترامب: أشدّ تأثيراً من الاقتصاد ومسائل التضخم والقدرة الشرائية، وأدهى استقطاباً من رهاب اللاجئين والمهاجرين والأجانب، وأعمق دغدغة للكوامن الفاشية التي تصاعدت وتتصاعد في نفوس أمريكيين كُثُر ابتداء من العقدين المنصرمين.

كيف يُلجَم رجل كهذا وهو يسيطر على البيت الأبيض، ومجلس الشيوخ، ومجلس النوّاب، والمحكمة العليا، فضلاً عن كونه القائد الأعلى الفعلي للقوات المسلحة؟

وفي قلب الـ”ماغا” كان يتنامى هوس “القومية الأمريكية” الذي لم يعد غريباً أو ناشزاً أو نادر الاستخدام كما كانت الحال قبل صعود ترامب، ومنذ شيوع هستيريا تعظيم أمريكا سنة 2015، حين تضاعفت أكثر فأكثر النزعات العنصرية والمناطقية، وفلسفات “التفوّق” العرقي الأبيض. كذلك، في جزء متمم، لم تعد الولايات المتحدة حصينة تماماً إزاء مؤثرات العالم خارج المحيط، ولم يعد تكوينها المجتمعي ــ الذي ساد الاعتقاد بأنه متعدد المنابت، تعددي الأعراق ــ بمنأى عن يقظة القوميات هنا وهناك، في العالم بأسره ثمّ في أوروبا حيث المنبع الثقافي الذي يغذّي قسطاً غير ضئيل من “القِيَم” الأمريكية.

وكي لا يُظلم ترامب أو تُنسب إليه وحده شرور الـ”ماغا” فإنّ غالبية الإدارات الأمريكية السابقة، منذ عهد وودرو ولسون وليس رونالد ريغان أو جورج بوش الأب والابن؛ لم تفعل سوى محاولة تطوير المشروع الإمبريالي الأمريكي، السياسي والاقتصادي والثقافي، تحت هذه المظلة بالذات: سطوة أمريكا العظمى! ولم نعدم كاتباً أمريكياً ظريفاً جنح ذات يوم إلى الشكوى من “واجب مقدّس” أُلقي على عاتق أمريكا تجاه العالم، اتخذ سلسلة تسميات مثل “الإمبراطورية بالصدفة العمياء” و”الإمبريالية بالتطوّع” و”العبء الجديد للرجل الأبيض”. وفي كتاب بعنوان “السلام الأمريكي” صدر للمرّة الأولى سنة 1967 ولم تمنع حرب فيتنام من جعله مرجعاً أثيراً لدى شرائح واسعة من القرّاء في أمريكا، كتب رونالد ستيل: “على النقيض من روما، إمبراطوريتنا لم تلجأ إلى استغلال أطرافها وشعوبها. على العكس تماماً… نحن الذين استغلتنا الشعوب واستنزفت مواردنا وطاقاتنا وخبراتنا”!

والرجل، ترامب، الذي أعلن على الملأ أنّ إعادة انتخابه سوف تخوّله أن يكون دكتاتوراً؛ وأنه سيثأر من خصومه، وعلى رأسهم أولئك الذين كانوا مستشارين في إدارته أو وزراء أو رؤساء أركان أو محامين، بمن فيهم نائبه نفسه؛ وأنّ عودته إلى البيت الأبيض سوف تريح الأمريكيين من واجب الذهاب إلى صناديق الاقتراع الرئاسية، مرّة أخرى أو إلى الأبد… لماذا سوف يعفّ، هذا الرجل بالذات، عن الذهاب إلى أقصى مدى في الفاشية والتسلط وترويض ما يتبقى من قواعد/ نواهٍ ديمقراطية في نظام الولايات المتحدة؟ للبعض أن يتشبث بمقولة رسوخ هذا النظام، وأنه أقوى من أيّة سلطات يمنحها الدستور للرئيس الأمريكي؛ ولكن… كيف يُلجَم رجل كهذا وهو يسيطر على البيت الأبيض، ومجلس الشيوخ، ومجلس النوّاب، والمحكمة العليا، فضلاً عن كونه القائد الأعلى الفعلي للقوات المسلحة؟

من المنتظَر، بالطبع، أن يغرق كبار “نطاسيي” الحزب الديمقراطي، المختلفين عن ساندرز من حيث المنهج والغاية والوسيلة، في ترحيل أسباب الهزيمة إلى عوامل مثل تأخّر بايدن في قرار عدم الترشيح، أو اختيار تيم والتز شريكاً على البطاقة مع هاريس، أو الأدوار التي لعبتها وسائل الإعلام اليمينية واليمينية المتطرفة، أو تدخّل الاستخبارات الروسية لصالح ترامب من زاوية عدم حماس الأخير للحرب في أوكرانيا، أو حتى الآثار (أياً كانت) لعجز هاريس والديمقراطيين عن كسب الصوت العربي في ولاية متأرجحة مثل ميشيغان؛ وسوى ذلك، ممّا هو كثير متعدد ومتشابك، محقّ أو باطل أو في منزلة بينهما. الراسخ، مع ذلك، أنّ فوز ترامب ليس اختراقاً تاريخياً لشخصه وشخصيته وما بات يمثّل في وجدان ملايين الأمريكيين، فحسب؛ بل هو انتصار ساحق للـ”ماغا” في مدلولاتها الأعمق، والأبعد أثراً وديمومة، من المحتوى الركيك الذي يعلن جعل أمريكا عظيمة مجدداً.

وما يصحّ أن يُنتظر من ترامب الثاني ليس المزيد من التطرّف في السياسة الخارجية، وملفات حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة، وتعزيز التطبيع مع السعودية خصوصاً، وتقليص الحضور الأمريكي في الأطلسي، فقط؛ بل ما هو آت على صعيد الداخل الأمريكي، أيضاً، لجهة انحسار يمين الجزب الجمهوري، مقابل صعود اليمين المتشدد: العنصري أكثر، والانعزالي أشدّ، والشعبوي أنكى، و… الفاشيّ الأعتى.

ـ عن “القدس العربي” ـ

أكمل القراءة

صن نار