جلـ ... منار

البذرة وراعيها

نشرت

في

يطلقون عليه في كاليفورنيا (وادي الموت) California’s Death Valleyإذ يبدو وكأنه أرض خالية من كل أثر لحياة، فلقد سّجلت فيه أعلى درجة للحرارة منذ أن بدأ تسجيل درجات الحرارة في تاريخ الأرض، وكانت 134 فهرنهايت 56 درجة و نصفا بمقياسنا العادي سلسيوس).لا يعرف المطر منذ سنين…

<strong>وفاء سلطان<strong>

لكن، ولسبب غير معروف، عام 2004 قررت أمنا الطبيعة أن تحنّ عليه،فسكبت بعضا من دموعها، حتى وصل منسوب المياه التي هطلت إلى مائة و خمسين مليمترا. في ربيع 2005 تبرقع ذلك الوادي من أعلى نقطة فيه إلى أسفلها، بجلباب أخضر جميل مطرز بكل ألوان الأزهار والنباتات.نفهم من ذلك أنه لم يكن أرضا ميتة، بل كان أرضا مليئة بالبذور التي كانت تنتظر قطرات المطر كي تتنتشي وتبرعم وتزهر!

كذلك هم البشر ليسوا إلا بذورا تنتظر ماينعشها، ويساعدها على الإثمار.(هذا باختصار شديد ماجاء في مقدمة كتاب Trust & Inspire للمفكر الأمريكي ستيفين كوفي) أما أنا فأحب أن اضيف: بداية الغيث كلمة حلوة تنعش روحا ميتة!

……….

قرأت مرّة مقابلة مع بطلة بينغ بونغ صينية، قدمت إلى أمريكا للمشاركة في التصفيات النهائية. و معروف عن ثقافة الصينيين أنهم يضغطون على أولادهم كثيرا وبلا رحمة عندما يتعلق الأمر بالفوز والمنافسة.إذ تدل الإحصائيات على أن أعلى نسبة للانتحار بين طلاب المدارس في أمريكا هي بين الذين ينحدرون من العرق الآسيوي، كنتيجة لما يواجهونه من ضغوط اسروية.

قالت في المقابلة: جئت إلى أمريكا وأعصابي تشتعل، كنت أخاف جدا من أن أرجع إلى اسرتي دون أن أحقق الفوز، وكان الخوف يسيطر علي بإحكام، ويمنعني من القدرة على التركيز.

ثم تتابع: عندما دخلت حلبة السباق، لا أعرف من أين خرج رجل أمريكي، واقترب مني ثم ربت على كتفي وهو يقول: Relax, you can do itاسترخي، بامكانك أن تحققي الهدف!! في تلك اللحظة الحاسمة أصبحت شخصا آخر، شخصا أكثر هدوءا وسلاما، وأكثر قدرة على التركيز.أنا مدينة بفوزي لهذا الملاك!

نعم لقد كان هذا الملاك قطرة المطر التي انتظرتها تلك اللاعبة

……….

في مقابلة مع محمد علي كلاي، ذكر أنه وفي سنوات مراهقته اقتنى دراجة، وكان متعلقا بها جدا.استيقظ أحد الأيام ليراها مسروقة، فراح يبحث عنها في شوارع حيه.سأله جاره: كيف حالك؟ فرد: أبحث عن دراجتي المسروقة! ثم لوح قبضته في الهواء، وقال: سأحطم رأس من سرقها بقبضتي تلك حتى ولو كان أكبر ملاكم في العالم.فرد الجار: إنني أراها قبضة لملاكم عالمي!!

يؤكد الملاكم (الذي أصبح عالميا فعلا بل أسطورة بعد ذلك) محمد علي كلاي: أن عبارة ذلك الجار لعبت الدور الأكبر في وصوله إلى العالمية، فلقد سقت البذرة التي كانت تنتظر قطرة مطر!

لا يوجد جميل ولا إبداع ولا تفوق في هذا الكون إلا وهو ـ بشكل أو بآخر ـ ثمرة لعطاء، لا يقل أهمية عن المطر الذي ينعش أرضا ميتة

……….

عندما نمتلك روح العطاء نعطي دون أن ندري، فيصبح العطاء طريقة حياة، وكل ما نعطيه يثمر خيرا وفرحا… بالمقابل، لا يوجد شح إلا حيث توجد أرواح شحيحة لا تستطيع أن تبوح حتى بكلمة تشجيع.

في الصف السابع الاعدادي، كانت معلمة اللغة العربية واسمها عبلة النوري، قد لاحظت أن لدي موهبة في الكتابة، فكتبت لي مرة:(يعجبني فيك حضور البديهة وحسن العمل، لديك موهبة فنميها بالقراءة حتى تثمر. إن الطريق طويلة، ولكن ثمرة الصبار تظهر بحلاوتها من بين الأشواك)

من يومها حفظتُ عبارتها عن ظهر قلب، وتتراءى أمام ناظري كلما واجهتني روح شحيحة تريد أن تستنزف عزيمتي. لا أعرف إذا كانت السيدة عبلة مازالت على قيد الحياة، لكنني أعرف ـ وبالتأكيد ـ أنها سقت بذوري، ولهذا استطعت أن أنتشي!

……….

نعم، الحياة مرآة تعكس لنا من يقف أمامها،باختصار تعكس علينا حقيقتنا…..تعكس علينا ما نقوله، مانفعله، ما ننويه، ما نقرؤه، ما نؤمن به، ومانرسله…

إذن وباختصار، نحن نتلقى ما نرسله!

كل شمس تسطع تأخذ يوما من عمرنا، لكنها تعطينا مقابله فرصة جديدة لنكون أفضل…لنعيد النظر في أفعالنا ونوايانا، فنغير قبيحها ونعزز جميلها، ومع الوقت نكتسب الحكمة لنميّز بين القبيح والجميل

……….

لستي أم علي حكمة لطالما تذكرتها وأنا أواجه شخصا ليس بيدي وسيلة لأساعده: (إذا ماعندك عسل، مابتمك عسل؟) والقصد: إذا لم يكن بمقدورك أن تساعد شخصا، أليس بمقدورك أن تقول له كلمة حلوة؟

أشد أنواع الحاجة هي الحاجة لكلمة حلوة،وتحقيقها من السهل الممتنع….هو سهل لأنه في متناول يد الجميع، وممتنع لأن أساليب تربيتنا فشلت في تعليمنا فن العطاء وأهميته، وبأن أجمل أنواع العطاء أقله كلفة…

هناك قول أمريكي: (ليس مهما أن تنجز عملا عظيما، بل الأهم أن تنجز عملا صغيرا بغية غاية عظيمة)

إذا كانت الكلمة الحلوة أصغر انجاز نحن معنيون بتحقيقه، فإن الغاية من بثها في روح تحتضر لَأسمى وأعظم الغايات!

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version