…والآن وبعد أكثر من عشرة أيام على تعليق العمل بالدستور …عفوا على تعليق نشاط مجلس نواب الشعب، ماذا حققنا وماذا كسبنا؟ وهل خرجنا مما نحن فيه؟ أم لا نزال نراوح مكاننا، حتى غرقنا في حفرة حفرناها بأرجلنا من فرط المراوحة بنفس المكان…؟؟
ماذا حققنا فعلا خلال هذه الأيام الأولى؟ هل يكفي أن نُخرج النهضة من الحكم وهو الأمر الذي أسعدها رغم ما أبدته في أول الأمر من ممانعة، أو نجبرها على الصعود إلى ربوة المعارضة، لنقضي على الفقر… والتهميش والبطالة…ولنصلح وضع الخزينة العامة …ونخفّض من نسبة العجز ونسبة التضخم؟ أو أن كل ما جرى ويجري هو من أجل أن يهتف جميعنا باسم مولانا ساكن قرطاج “يحيا الرئيس” و”الشعب معاك يا قيس”؟
يذكرني ما يقع اليوم في تونس بما وقع في فرنسا أيام ماكسيمليان دي روبسبيير ألم يكن روبيسبيير نصيرا للإصلاح الديمقراطي، ألم يشرف خلال “عهد الرعب” على اعتقال وإعدام عددا كبيرا من الخصوم السياسيين، من الذين اعتبرهم هو وحلفاؤه معارضين للثورة…ألم يشرف على قمع الجيرونديين من اليمين، والهيبرتيين من اليسار، والدانتونيين من الوسط…لا أظنّ أننا في تونس سنصل ما وصله ماكسيميليان في فرنسا…لكن ألا ترون معي أن التشابه في الأحداث كبير بين ما يقع اليوم في تونس، وما وقع في فرنسا أيام روبسبيير مع فارق بسيط هو أننا إلى يومنا هذا لم نصل إلى مرحلة الإعدام ونصب المشانق ومن يجزم أننا لن نصل إليها يوما؟…ألا يشبه ما يقع اليوم بما وقع سنة 2011 فماذا حققنا بعد 14 جانفي…ألم يخرج علينا أناس لا نعرفهم…يشوّهون هذا ويشوّهون الآخر…يتهمون هذا ويحاكمون الآخر…يسحلون هذا ويطردون الآخر…فماذا حققنا بما أتوه وفعلوه…؟؟ طبعا لا يمكن أن نشبّه الرئيس قيس سعيد بماكسيميليان روبسبيير، لكن يمكننا أن نشبّه أتباعه ومناصريه بماكسيميليان المسكين، فداخل الكثير من عقول مناصري ساكن قرطاج، يعيش ماكسيميليان بحقده وجبروته ونهمه الكبير للانتقام، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا …لماذا الانتقام وممن يريد أنصار سعيد الانتقام؟ ممن يكبرونهم سنا بعنوان أن هذه المرحلة هي مرحلة الشباب أم ماذا؟ وهل كان ابعاد النهضة مجرّد ذر الرماد على الأعين، وتحويل وجهة هذا الشعب المسكين عن حقيقة اهداف ما وقع يوم 25 جويلية؟
هؤلاء اليوم وبما يأتونه من خطاب استئصالي حاقد على الجميع لا يبشرون بخير …وهم بما ينشرونه لا يخدمون مصلحة البلاد ومصلحة “معبودهم” ساكن قرطاج…بل هم يغرقونه في دائرة ضيّقة قد تسيء إليه كثيرا…ألا يمكن أن يجلس ساكن قرطاج لنفسه يخاطبها…يناقشها ويسألها ما تريده منه وعنه وبه…وما تنتظره… ينقد ذاته… ويراجع بعض أقواله وأفعاله، أم أنه وكمعظم رجال السلطة والنفوذ وأصحاب الأمر والنهي، لا يقبلون بممارسة النقد الذاتي والقبول ببعض المؤاخذات والمراجعات؟ لسنا ضدّ كل ما وقع….لكننا نخاف مما يمكن أن يقع…
لنسأل كل العارفين والمتابعين للشأن التونسي، ماذا سينفعنا وينفع هذا الشعب أن نجلس يوميا لبعض إطارات الدولة وعلى مرأى ومسمع متابعي شريط أنباء الوطنية، وصفحة رئاسة الجمهورية، نجلدهم بخطاب نقدي غير مبرّر…هل نأمل من أن هؤلاء سيقبلون بما قلناه فيهم وعنهم…وهل نحن قضاة حتى نشتبه في أمر الجميع… وهل وجب أن يكون الجميع محلّ شبهة حتى نخاطبه بخطاب نصفه اتهام، ونصفه الثاني تهديد ووعيد…فمن سيقبل بالعمل في مؤسسات الدولة، حين يستمع إلى خطاب كهذا من أعلى سلطة في الدولة، رئيسها…؟ ألا يمكن أن نغيّر خطابنا ليصبح خطاب استمالة وتهدئة وطمأنة واستقطاب لكفاءات أصبحت رافضة لكل منصب أو خطّة وظيفية في مؤسسات الدولة؟
والسؤال الأخطر ماذا ينتظر الشعب من ساكن قرطاج بعد أن أبعد الأحزاب من المشهد العام للحكم…هل سيكتفي هذا الشعب بالتصفيق والصراخ والغناء ليلا نهارا احتفالا بــ”الزعيم”…؟ هل هذا فقط ما يبحث عنه الشعب؟ وهل هذا ما يريده حقّا ساكن قرطاج؟ وغدا….حين يستفيق الشعب من سكرته…ماذا سيقول له ساكن قرطاج…هل سيكتفي بأن يقول ” لقد اتفقت مع تجار الجملة والتفصيل على بيعكم بضاعتهم بأرخص الاثمان…واتفقت مع الصوناد على أن توفر لكم الماء الصالح للاستحمام عفوا للشراب دون انقطاع…وسأتفق مع شركات بقية المنتجات الغذائية واللحوم لنوفر لكم الغذاء واللحم بأرخص الأسعار …كما أن اتحاد الصناعة والتجارة وافق على مراجعة بعض الأسعار خدمة للمواطن ضعيف الحال وسيقع التخفيض في سعر “الشوكوطوم” ليكون في متناول كل الشعب”…أهذا حقّا ما يريده المواطن اليوم؟ لا أظنّ فالمواطن يبحث عن تحقيق ما وعدوه به في كل محطّة انتخابية…ويبحث ما يعيد له كرامته التي سلبت منذ عشر سنوات ويزيد…كرامته بكل تفاصيلها…
هل ستعيد هذه الإجراءات البسيطة التي يلهث وراء تحقيقها ساكن قرطاج “زعيم” حركة تصحيح المسار كما يسميها البعض الهدوء إلى الشارع التونسي، والأمن في نفوس أبناء هذا الشعب، والأمل لشبابه الذي أحبطه ساسة ما بعد 14 جانفي؟ وهل تعيد إجراءات ضمان “شكشوكة تونسية” الحياة للطبقة الوسطى بعد اندثارها تماما؟ فانخرام توازن الحياة الاجتماعية سببه الرئيسي هو اندثار الطبقة الوسطى…ولن يعود إليها توازنها دون إعادة الحياة إلى هذه الطبقة التي تمّ القضاء عليها عمدا من حكام ما بعد 14 جانفي…فالطبقة الوسطى هي من يضمن بقاء بقية طبقات المجتمع على قيد الحياة، فهي التي تضمن انتعاش وتوازن المشهد الاقتصادي عموما…
والسؤال الذي يطرح نفسه دائما، هل ثمة من يدفع بالبلاد على طريق الانهيار فالبلاد تواجه أزمات لا سابق لها في تاريخها؟ أم أن حكام هذه البلاد فقدوا الرؤية والبصيرة بسبب أنانيهم، وضعف خبرتهم في إدارة الشأن العام، فتونس تعاني ومنذ دخول الليالي السود سنة 2011 نوعا من “الكساد المتعمد” والتفقير الممنهج…وغلق متعمد لكل مواقع الإنتاج الاستراتيجية…فهل يمكن اعتبار ما يحدث للبلاد اليوم طبيعيا؟ وهل يمكن تحميل كل الطبقة السياسية التي حكمت البلاد بعد 14 جانفي مسؤولية هذا الانهيار؟ فتونس ومنذ استقلالها لم تعش مثل هذا التقاعس المتعمّد في إدارة الشأن العام…فهل دبّ الوهن في عظام ساستنا…أم ترهلت وشاخت الطبقة السياسية لتصبح ديارها فارغة خِرَبًا لا حياة فيها…؟؟
جميل أن نقاوم الفاسد والمفسدين…وجميل أن نقتلع الفساد من جذوره…وجميل أن نحمي الدولة ونعيد إليها الاعتبار، بعد أن عانت من الإذلال طويلا من جماعات “اللاّدولة”…فهذا الشعب يعيش ومنذ أكثر من عشر سنوات حالات من الإحباط والشعور بالعجز التام… فجميل أن نعيش اليوم عهدة مقاومة هذا الفساد، مع من لا يخشى في الله لومة لائم من رجالات المؤسسة الأمنية والعسكرية والقضائية…فالفساد أصبح عقلية…وثقافة عامة …منذ غاب الرادع…وضعفت الدولة…ومرغنا بهيبتها الأرض…فالفساد عند البعض أصبح منهجا…لكن هل سنكتفي بمقاومة الفساد دون أن نواصل البناء، وننقذ ما يمكن إنقاذه بعد الخراب الذي حلّ بالبلاد…فالتصفيق لوضع أحدهم تحت الإقامة الجبرية لن يفيدنا في شيء….والصراخ لخطاب تأديبي لسيادته أمام أحد المسؤولين لن يفيدنا في شيء…والوابل من التهم والصواريخ العابرة من الشتائم والتهديد والوعيد لن يعيد للبلاد شيئا مما ننتظر…واتهام الجميع بالفساد لن يذهب بنا بعيدا…وعمليات إنزال في مقهى شعبي بحي شعبي لن تخرجنا مما نحن فيه…وفتح المجال لأنصارنا لابتزاز رجال الأعمال والمسؤولين ستكون عواقبه أخطر…فهل يمكن أن نقاوم الفساد ونحمي الدولة بالأحقاد وزرع الفتن…هل يمكن أن نعدل بين الناس بخلق الأعداء يوميا من خلال ما نقول ونفعل…فماذا سنقول لأبناء من أتهم ظلما وعدوانا….وماذا سنقول لأم من نُعت ابنها بالفساد وهو بعيد عنه كل البعد….وماذا يمكن أن نقول لمن وضعناه في السجن ظلما وبسبب وشاية انتقامية…وماذا سنقول لوالد أحد المسؤولين بعد أن أقلنا ابنه حقدا وانتقاما…علينا أن نهدأ في معالجتنا لأوضاع البلاد ..وأن نُغلّب العقل والمنطق في كل خطوة في هذا الاتجاه…فالدولة تترنّح ونحن نصرخ طربا لشتيمة ولسجن مظلوم…ونطرب للانتقام…
دَعُونا نخرج البلاد من أزمتها دون أحقاد…فالظلم والحقد…وعقلية الانتقام تقتل الأوطان في قلوب بعضنا…ولن ننجح في انقاذ البلاد دون أن يكون هذا الوطن جزءا منّا…حيّا فينا…فالأوطان تقتلها الأحقاد والفتن…فحين يموت الوطن فينا …تصبح كل الأوطان الأخرى أوطاننا…وتصبح “الحرقة” وطنا…والغربة وطنا…والمنفى وطنا…والخيانة وطنا…والسجن وطنا…وحضن عاهرة وطنا….وحين يصبح الإذلال والظلم والتهميش والخيانة والتفرقة و”الحقرة” شعار المرحلة …يموت الوطن فينا…فنبحث عن وطن آخر نحميه ويحمينا…ففي تونس اليوم ومنذ عشر سنوات يُغْتَالُ الوطن فينا كل يوم…وكل ساعة …وكل دقيقة…ولا يزال البعض يصرّ ويسرد على مسامعنا كل يوم ما قالته تلك الراقصة في شريط “عسكر في المعسكر” ” البيت ده طاهر وحيفْضل طول عمرو طاهر…”….