لمْسُ نار

التخميرة …

نشرت

في

منذ أكثر من شهرين وجدت تونس نفسها بين شعاري الشعب يريد و “ الشعب يريد ما لا تريد “… مسيرات من هنا و مسيرات من هناك، وقفات من هنا و وقفات من هناك مطالب من هنا و مطالب من هناك ، مساندة من هنا و تخوين و اتهامات من هناك … شهران و تونس تعيش على وقع الاختلاف في الواقع و في المواقع، و هو لو تعمّقنا فيه اختلاف قادر على البناء و على تحسين المشهد و لكننا و كعهدنا دوما و لايمكن أن نكون تونسيين دون أن نكون كذلك – فيتخمر كل طرف ليدافع عن رأيه و توجهاته  و كل يدّعي امتلاك الحقيقة ، و لا حقيقةَ مطلقة

<strong>عبير عميش<strong>

هذه التخميرة و لئن تفاقمت منذ يوم 25 جويلية إلا أنها ترجع إلى ما قبله بكثير فالشعب التونسي شعب عاطفي بامتياز ينشغل في كلّ مرّة بأمر لا يلبث أن يتركه بعد فترة قصيرة لينشغل بغيره كالطفل يفرح باللعبة الجديدة ثم سرعان ما يملّ منها ليطالب بغيرها

فمن تخميرة “ الثورة” و “ الرجل الذي قال لا “ و “ اللي ماعنداش يهز بلاش “ في 2011 إلى تخميرة حملات الدّيغاج  و اعتصام القصبة 1 و 2 و المجلس التأسيسي و العفو التشريعي العام  و “ ما احلى القعدةعلى الميّة و ما احلى الربيع “ إلى تخميرة بيرسيبوليس و الاسلام في خطر و إلى الخلافة السادسة مرورا بحوادث اغتيال بلعيد و البراهمي و اعتصام باردو و  “بحيث” متاع نداء تونس و الروز بالفاكية و “الخطان المتوازيان اللذان لا يلتقيان” و لقاء باريس و  التوافق  و القائمة طويلة بطول صبرنا على واقع السياسة في بلدنا و محاولات تشكل تجربة ديموقراطية بنكهة و خصائص تونسية  و حتى لحظة الشعب يريد و قرارات 25 جويلية الأخير و مارافقه من تجاذبات تواصلت إلى اليوم لتنطلق تخميرةجديدة فها نحن منذ أن وقع الإعلان عن اسم رئيسة الحكومة أو الوزيرةالأولى نعيش تخميرة من نوع جديد تخميرة ” نساء بلادي نساء و نصف” و ” لن ينجح قوم ولّوا أمرهم امرأة”

لا أحد ينكر ما لهذا التعيين من رمزية و من إشارات تبدو موجهة إلى الخارج قبل الداخل و لكنه تعيين لايخلو من محاولات التوظيف و فيه رسالة مزدوجة إلى الحداثيين و المنظمات النسائية و الحقوقية من جهة لاستمالتهم و إلى الشق الرّجعي بأنه فعَل و فعَّل ما يرفضونه و مايزيد في إظهار تزمّتهم و تأكيد عزلتهم من جهة أخرى

و قد نسي الجميع أن المرأة كيان انساني متكامل و أن الفرحة بتعيينها على أساس نسويّتها فيها استنقاص من قيمتها و مكانتها و قدراتها و مهاراتها إذ من حقّ أية امرأة تونسية أن تكون في موقع القرار دون منّة أو مزيّة من أي كان و ليس في ذلك تكريم لها أو شرف لبلادها  و ليس من المعقول أو المنطقي معاداتها أو محاباتها على أساس الجنس فلا معيار يفوق معيار الكفاءة و الجدارة عند الشعوب التي تحترم نفسها   …

السيدة نجلاء بودن هي ثالث  “رئيس حكومة” يختاره رئيس الجمهورية على معيار الولاء و الثقة و الطاعة _ و ما أتى به ليس بدعة فأغلب من مروا بالقصبة كان هذا هو معيار تعيينهم و هو أيضا من بين أسباب فشلهم في إدارة شؤون البلاد  _ فالمرأة غير معروفة إلا في الأوساط العلمية و في المستوى الأكاديمي الضيق و لا يُعرف عنها أي انتماء حزبي أو مشاركات سياسية سابقة فماالذي جاء بها غير ضمان ولائها للرئيس قيس سعيّد.. ؟؟

إن الجماهير المتخمرة التي استبشرت بتعيينها و شعبنا اللي يشطح على طار بوفلس ربط مباشرة بينها و بين أنجيلا ميركل نموذج نجاح ألمانيا في السنوات الأخيرة بل تفننوا حتى في الربط بين الاسمين ( أنجلا / نجلاء)… و لكن مقارنتها بأنجيلا ميركل ” لا ما ما ” الألمانية أو حتى  بمارغريت ثاتشر المرأة الحديدية البريطانية … فيه ظلم كبير لها و رفع لسقف  الانتظارات و التوقعات و الحال اننا جميعا نعلم أنها جاءت لتنفيذ سياسات من عيّنها على عكس كل من ثاتشر و ميركل ،  إذ أن بلوغهما منصب المسؤول الأول لم يكن بالتعيين المسقط بل بالانتخاب و بعد رحلة سياسية طويلة تُوّجت بنيل ثقة الشعب … فكلاهما تدرجت في المناصب القيادية و الحكومية و مارست السياسة  إلى جانب اختصاصها الأكاديمي…

جميعنا نعلم أن السيدة نجلاء _ على الأقل في المرحلة الحالية _ ليست إلا ستارا سيتخفى وراءه رئيس الجمهورية لإدارة حكم البلاد و هو ما سعى إليه منذ حكومتيه السابقتين فكل الاتفاقات و التصورات و القرارات ستطبخ في قصر قرطاج ليقع الإعلان عنهاعبرالقصبة و أن الوزيرة لن تكون إلا أداة تنفيذ لإرادة الرئيس  و قد تجلى ذلك من خلال خطاب التكليف نفسه الذي سطر لها فيه أولوياتها

فالمهمة الرئيسية التي كلفها بها و هو يستحثها على الإسراع في تكوين حكومتها فيكفي ما ضاع من وقت حسب قوله _ و كأنها هي المتسبب في إضاعته _  هي مقاومة الفساد ثم الاستجابة لمطالب التونسيين في توفير الحياةالكريمة فإن نجحت فهو نجاح له و إن فشلت _ و هو ما لا نتمناه لها _  فهو فشل لها ستتحمل وزره بمفردها صحبة أعضاء حكومتها و سيتملص منه السيد قيس سعيد…

إن الوزيرة الأولى لن تختار أعضاء حكومتها بمفردها و هو ما تأكد لنا من خطاب استقبالها مساءأمس للتفاوض حول الحكومة حيث عاد الرئيس إلى الحديث عن رفضه لأية محاولات لفرض خيارات معينة أو تدخل من اي طرف في اقتراح بعض الأسماء و أن خياراته أساسها الوطنية و الجدارة لا غير..  و هذا جميل و بنّاء و لكن كفانا معارك جانبية و خطابات مقسمة للشعب  و لنهتم فعلا بما ينفع البلاد …

إن الوقت قد حان _ و أرجو أن لا يكون قد فات _ للاهتمام بالملفات الاقتصادية و الاجتماعية و معالجة الأوضاع الاجتماعية و الاقتصادية خاصة

إن مقاومة الفساد هي مهمة ضرورية  و حتمية و لا بد منها لإصلاح حال البلاد لكن جعلها في أعلى سلم الأولويات سبضيع المزيد من الوقت على المواطنين و خاصة منهم الأكثر فقرا و معاناة فهذا الملف يحتاج سنوات من العمل و لا يمكن القضاء عليه بجرة قلم… بل يحتاج في البداية إلى إصلاح القضاء فهو الإطار القانوني لأية محاسبة…

إن انتظارات الشعب كبيرة و المآزق و المطبات أكبر

فكيف ستتصرف السيدة الوزيرة إزاء ذلك

ماذا ستفعل مع مطالب التشغيل المتفاقمة يوما بعد يوم؟

ماذا ستفعل مع مطالب الإصلاح التي يطالب بها البنك العالمي و صندوق النقد الدولي ؟

ماذا ستفعل إزاء الإصلاحات الكبرى المنتظرة ؟

ماذا ستفعل في ملفات التنمية و الاستثمار ؟

كيف ستتعامل مع اتحادالشغل و سائر المنظمات الوطنية ؟

كيف ستكون علاقتها بالأحزاب ؟

كيف سيكون تعاملها مع الإعلام ؟

ان الحكم للسيدة الوزيرة الأولى أو عليها لن يكون الا بعد الكشف عن تركيبة الحكومة و بعد الخطاب الأول الذي تتوجه به إلى الشعب و تعلن فيه عن توجهاتها الكبرى

و لا يمكن أن نطالبها بخطة عمل واضحة و بالنجاح في تنفيذها ما لم نعرف المدة الافتراضية لحكومتها فهل ستكون حكومة لفترة استثنائية قصيرة أم ينتظرها عمل سنتين أو ثلاثة و هذافي رأيي عامل أساسي في تقويم تصوراتها و الحكم على عملها

أما العامل الثاني فهو دور الشعب فلا يمكن أن نشبهها بانحيلاميركل و نحن لا نشبه الشعب الألماني في شيء إذ نفتقد الانضباط و لا نراعي قيمة العمل و نتخمر و نقول كثيرا و لان فعل شيئا يذكر…

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version