جلـ ... منار

التواطؤ باسم الإنسانية!

نشرت

في

تكاد تتماهى ازدواجية الخطاب الأمريكي مع عوالم مسرح اللا معقول!
الكلام وعكسه في خطاب واحد.

<strong>عبد الله السنّاوي<strong>

دعوات متواترة لإدخال المساعدات الإنسانية بكميات كافية ومستدامة لإنقاذ أهالي غزة من الموت جوعًا، وتمديد بالوقت نفسه للعدوان الذي يزهق أرواحهم!
مشاهد الجوعى الذين يتعرضون للتقتيل العمدي أثناء انتظارهم الحصول على مساعدات غذائية تبقيهم على قيد الحياة تطرح تساؤلا جوهريا إذا ما كانت أية
دعايات أمريكية عن القيم الإنسانية قابلة للتصديق!
إذا لم يمت مئات الآلاف من الفلسطينيين بالقصف المتواصل فإنهم قد يلقون المصير نفسه بالتجويع المنهجي المقصود.

باليقين فإن الإدارة الأمريكية تتحمل المسؤولية الأولى عما يحدث للفلسطينيين من تنكيل تجاوز كل كابوس متخيل أو غير متخيل.
مددت للعدوان الهمجي على غزة ومنحته غطاء سياسيًا واستراتيجيًا وعسكريًا كاملا حتى ينجز هدفيه المعلنين، اجتثاث حركات المقاومة الفلسطينية واستعادة الأسرى والرهائن بلا تكاليف سياسية باهظة.
لمرات عديدة منعت بحق النقض استصدار أية قرارات من مجلس الأمن الدولي بوقف الحرب دون أن تتوقف عن دعوة القوات الإسرائيلية لمراعاة القانون الدولي الإنساني في حماية حياة المدنيين.
طوال الوقت تدعو لإدخال المساعدات الإنسانية دون نجاح يذكر.
وأخيرًا دعت في خطاب الاتحاد، الذي ألقاه الرئيس “جو بايدن” أمام مجلسي الكونغرس، لإنشاء رصيف بحري قبالة سواحل غزة لإنجاز هذه المهمة الإنسانية!

لم يكن الدعم الإسرائيلي المعلن لذلك المشروع كلامًا في فراغ الاستراتيجيات.
أول ما يستلفت النظر أن إنشاءه وتشغيله قد يستغرق نحو ستة أسابيع حسب التقديرات الأمريكية.
المعنى أنه لا حديث بأي مدى منظور عن وقف إطلاق النار، أو تحسين الوضع الإنساني بضخ مساعدات كافية عبر المنافذ البرية.
ربما يمتد المعنى إلى تخفيض أية رهانات على تسوية ما عبر المفاوضات غير المباشرة بين “حماس” وإسرائيل.
بحسب الحيثيات المعلنة فإن المشروع الأمريكي يستهدف رفع نسبة المساعدات الإنسانية، أو أن تصل مباشرة إلى الجوعى من المدنيين لا إلى “حماس”، وبالتنسيق الكامل مع السلطات الإسرائيلية.

بنظر منظمات الأمم المتحدة: “لا بديل عن الممرات البرية”، قاصدة أن معبر رفح الحدودي المصري أسهل وأسرع إذا ما أجبرت الولايات المتحدة إسرائيل على عدم استهدافه بالقصف، أو التعسف المفرط في إجراءات دخول المساعدات”.
بتعبير وزير الخارجية البريطاني “ديفيد كاميرون”: “لا بديل عن الممر البري”، قاصدًا معبر رفح بالذات.
بتقدير “واشنطن بوست” فإن “الممر البحري لا يكفى”، توافق على مشروعه، لكنها تشكك فى قدرته على الوفاء بالمهمة الإنسانية المفترضة.
أخطر ما في ذلك المشروع: تجريد مصر من معبر رفح وقيمته الاستراتيجية.
وتجريد غزة في الوقت نفسه من الرئة العربية الوحيدة للحركة والتنقل.
هذا يستدعى التنبه البالغ والتصحيح الضروري لأية أخطاء وخطايا ارتكبت في إدارة ذلك المعبر بعد توقيع اتفاقيتي “كامب ديفيد”.

باسم الإنسانية مرة أخرى يجري التواطؤ على أدوار وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين “الأونروا” بذريعة أن ذلك الرصيف البحري سوف يوفر خدماتها دون حاجة إليها!
هذا محض ادعاء لا أساس له.
استهداف “الأونروا” بادعاءات غير ثابتة عن علاقة بعض موظفيها بـ”حماس”، وفرض حصار دولي على تمويلها، قصده تفكيكها لإحكام الحصار مستقبلا على القطاع في خدمات لا غنى عنها كالصحة والتعليم والتشغيل.
بتعبير وزير الدفاع الإسرائيلي “يوآف غالنت” فإن الرصيف البحري يساعد على انهيار “حماس” قاصدًا التركيع النهائي للفلسطينيين.

هكذا بكل وضوح فإن ذلك المشروع هو عمل متوافق عليه بين الجانبين الأمريكي والإسرائيلي.
إنهما يعملان تحت أفق استراتيجي واحد رغم أية تناقضات بين إدارة “بايدن” وحكومة “بنيامين نتنياهو”.
قد ترى الإدارة الأمريكية الحالية أنه يفتقد في اللحظة الحالية القدرة على القيادة.
بالمقابل فهو يصعد ضدها لهجة الخطاب.
لكن ذلك لا يمنع التوافق على الأهداف العليا للحرب، وعلى رأسها التهجير القسري أو الطوعي للفلسطينيين بعدما تصبح حياتهم شبه مستحيلة في القطاع المحطم، التي تؤكد التقارير الدولية أن (80%) من بيوته هدمت بالكامل، وأن خسائره المادية قد تتجاوز (30) مليار دولار.

القضية الحقيقية ليست “التوطين في سيناء” بقدر ما هي إخلاء غزة من أهلها وتشتيتهم في دول أخرى، عربية وغير عربية.
لذلك الرصيف دور وظيفى مقصود في التهجير الطوعي.
في بداية الحرب وجد اليمين الإسرائيلي المتطرف في الدعم الأمريكي شبه المطلق فرصة للتهجير القسري من غزة إلى سيناء وفرصة أخرى لتهجير مماثل من الضفة الغربية إلى الأردن.
اصطدم مشروع التهجير القسري بموقف مصري وأردني وفلسطيني وعربي شبه موحد.
تراجع مؤقتًا لكنه ما يزال ماثلا بصيغ جديدة طوعية هذه المرة يساعد عليها مشروع الرصيف البحري.
قد يؤسس الرصيف البحري لتواجد أمريكي عسكري مباشر بهدف السيطرة على مخزون الغاز، الذي تؤكد التقارير الدولية توافره قرب شواطئ غزة.

إنه الغاز عصب الحياة الحديثة، الذي تأكدت قيمته الفائقة في حرب أوكرانيا.
تنفي إدارة “بايدن” أنها بصدد تركيز أية قوات عسكرية في غزة.
ربما أرادت أن تطمئن الرأي العام الأمريكي قبيل الانتخابات الرئاسية، التي قد تقرر مصير “بايدن” في البيت الأبيض، أنه لن يكون هناك تورط عسكري مباشر في غزة.
وربما أرادت أن تطمئن بالوقت نفسه “الحليف الإسرائيلي”، أنها ليست بصدد عرقلة أية خطط عسكرية مزمعة في رفح، التي يراها “نتنياهو” ضرورية لحسم الحرب.

يستلفت النظر أن مشروع الرصيف البحري طرح مباشرة إثر زيارة الوزير في مجلس الحرب الإسرائيلي “بينى غانتس” للعاصمة الأمريكية واشنطن.
برغم الخلافات المعلنة فإنهما يتبنيان أهداف الحرب نفسها، المعلنة وغير المعلنة.
يحاول بايدن بخطابه المزدوج أن يحسن صورته داخل الحزب الديمقراطي كرجل يتبنى خطابًا إنسانيًا دون أن يتوقف عن توفير القنابل والذخائر والدعم المالي والاستخباراتي للعدوان على غزة.
لا يصلح ذلك الخطاب لتحسين صورة أو لإضفاء هيبة.

إنه تواطؤ باسم الإنسانية على غزة ومستقبلها.

ـ عن “الشروق” المصرية ـ

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version