جور نار

التونسي كي يسمع كلمة “مجلسْ” … يستلبسْ !

في المجلس الأعلى للتربية

نشرت

في

شكرا للإعلامي المُشرق صديق الكلمات البهيجة صاحب برنامج “مجرّد سؤال” على الإذاعة الوطنيّة عزالدين بن محمود، الذي مكّنني يوم الجمعة الماضي من بلورة بعض الملاحظات حول ما يدور خلال الأيام الأخيرة من حديث حول المجلس الأعلى للتربية وضرورة إرسائه كآلية إنقاذ للمنظومة التربوية التونسية مما آلت إليه من هُزال وسوء أداء. فكانت المداخلة التالية التي تمحورت على أربع أفكار أساسية :

<strong>منصف الخميري<strong>

ولكن قبل ذلك، أتاح لي السيد بن محمود فرصة التذكير بأن النخبة التونسية بصورة عامة لا تطرح السؤال على نحو “ماذا ستجْنيه تونس من بعث مجلس نيابي أو هيكل قضائي أو هيئة وطنية ما ؟” بل تطرحه دائما على نحو “ماذا يمكن أن يجنيه الأفراد من الجلوس في المجلس أي التموقع داخل هذه المؤسسات ؟” … لذلك، وبمجرّد أن أعلن رئيس الجمهورية أن أكبر الجرائم التي تُقترف اليوم في حقّ تونس هي ضرب منظومة التربية والتعليم، وأنه لا بدّ من الإسراع ببعث مجلس أعلى للتربية يتولّى مهمة إصلاح وضع المدرسة التونسية، تعالت أصوات أئمّة التربية وفقهاؤها ودهاتها وحكماؤها وعلماؤها وراحوا يخيطون مواصفات من سيشرف على حظوظ هذا المجلس على مقاسهم… وكأني بهم مقاولون يتسابقون بشكل محموم لكسب معركة بتّة عمومية مُربحة جدا. وبرز المترشحون الذين يعتبرون أنفسهم الأجدر بترؤس هذا المجلس بالنظر إلى شهائدهم العرمرم ويافطات الخبرة الدولية (حتى أن  واحدا منهم سمّى نفسه خبيرا استراتيجيا في إصلاح المنظومات التربوية) دون أدنى حديث لا عن مشمولات هذا المجلس ولا عن آليات تسييره أو انتظارات المجتمع من بعثه.

وبالتالي فقد صحّ قول الأستاذ فتحي بوغرارة الذي علّق على المعارك الدائرة رحاها حتى على صفحات الفايسبوك بأن “رهان المناصب أشرس أعداء الإصلاح“.  

الفكرة الأولى : المجلس الأعلى للتربية مؤسسة قديمة جدا في تونس

أول مجلس أعلى للتربية في تونس كان سنة 1888 وكان اسمه المجلس الأعلى للمعارف “يعطي رأيه في الإصلاحات وفي الميزانية وفي التأديب بالنسبة لأعضاء التعليم”. ثم المجلس الأعلى للتربية القومية سنة 1958 الذي “تقع استشارته في المسائل المتعلقة بالتعليم وخاصة في تأسيس المعاهد المدرسية وبرامج الدروس والامتحانات والكتب…” إلى أن جاء القانون التربوي عدد 65 لسنة 1991 الذي “تقع استشارته في المسائل ذات المصلحة الوطنية المتعلقة بالتربية والتعليم…”.

وهكذا يتّضح أن هذه الآليّة ليست بجديدة على مدرستنا التونسية العريقة ولا هي ببِدعة تفتّقت بها قريحة بعضهم، وكان دائما الهاجس الأكبر الذي تتغذّى منه فكرة “هيئة عليا للتربية” هو الإيمان بأن الوزارة والدولة عموما تنفّذ وتفعّل وتطبّق ولكنها لا تبني التصوّرات ولا تقدر على تشخيص واقع المرفق الذي تشرف على تسييره بموضوعية وأنه لا بد من خبرات عالية في المجال تتحلّى بالموضوعية والقدرة على إكساب مدرستنا مزيدا من النجاعة خاصة في ضوء “ابتلاعها” للجزء الأكبر من الميزانية العامة للدولة.

الفكرة الثانية : المجلس الأعلى للتربية منظومي وليس قطاعي

التربية في أغلب بلدان العالم هي قطاع واسع متعدد الروافد والطوابق ولكن تستوعبه وزارة واحدة تُعنى بكل ما له صلة بالتربية والتكوين والتعليم العالي والبحث العلمي (بإدارات عامة قطاعية). أما في تونس فلدينا تعليم ما قبل مدرسي تشرف عليه وزارة المرأة وتعليم أساسي وثانوي تشرف عليه وزارة التربية وتكوين مهني تشرف عليه وزارة التكوين المهني وتعليم جامعي تشرف عليه وزارة التعليم العالي… إلى جانب تكوين مُمَهنن تشرف عليه وزارات أخرى مثل الفلاحة والسياحة والصحة والداخلية والدفاع… تكوين متشظّ يشبه إلى حدّ كبير تشقّق منطق دولتنا وتصدّعه في تسيير أمور البلاد. والغريب في تونس أن المعلم الذي يستقبل أطفال المحاضن ورياض الأطفال لا فكرة لديه مطلقا حول ما درسه هؤلاء قبل وصولهم الى المدرسة وأستاذ الإعدادي والثانوي غير مطالب بالاطلاع على ما يُدرّس أو لا يُدرّس في الابتدائي والأستاذ الجامعي في كوكب آخر لا يهُمّه البتّة ما تتناوله البرامج في الثانوي…

وعليه، فإن مهمة ضرورة تأمين الترابط والتكامل العضويّين بين كل مفاصل التكوين ومحاضنه تقتضي أن يكون “المجلس الأعلى للتربية والتكوين والتعليم العالي” متألّفا ضمن تركيبته من المعلم والأستاذ والمكوّن والجامعي والاقتصادي والمختص في عالم الشغل ورجل القانون…

الفكرة الثالثة : العالم لم يعد يتبنّى مقاربة “الاصلاح التربوي الشامل”

أمام اصطدام أي إصلاح تربوي مهما كان شاملا ومتبصّرا ومتكئا على تصورات أعتى الخبراء والدارسين بإكراهات الواقع الميداني للمدرسة و”حقيقتها المُركّبة” التي يصعب الإمساك بها في علاقة بمحوريتها داخل المجتمع وشساعة الجمهور الذي تتعامل معه ويتعامل فيها (لذلك سمّيت بماموث التربية : نسبة إلى ذلك الفيل الضخم المنقرض الذي كان يعيش في أوروبا الوسطى قبل مليون سنة)… وبات لا يُنفّذ من تجديداته وتوصياته إلا جزء يسير جدا… فضّل عديد الخبراء ووزراء التربية في العالم اعتماد مقاربة جديدة مفادها أنه “بدلا من البحث عن سنّ قانون ضخم بشأن التربية، من الأجدى أن نشتغل على رافعات تغيير أساسية من أجل تحديد جملة من الأولويات البارزة التي لا خلافات جوهرية حولها“… لأن الإصلاح ليس هو الذي يغيّر المدرسة ويؤثّر في مُخرجاتها، وإنما المدرسة هي التي تعدّل هذه الاصلاحات وتُحرّفها وتُحوّل وِجهتها وتختطفها أحيانا.

وفي وضع مدرستنا التونسية، أعتقد أن الأولويات واضحة ولا يختلف فيها اثنان عاقلان  :

  • فصَهْر أضلع منظومة التربية والتكوين والتعليم في كيان واحد… أولوية (ولو في شكل هيكل وطني مؤقت عابر لكل الوزارات والهياكل المعنية بالتربية)
  • ووضع حدّ لتراجع مكانة الرياضيات في مدرستنا …أولوية
  • وإعادة هيكلة الشعب المدرسية…أولوية
  • وجعل مسلك التكوين المهني معبرا أساسيا بمواصفات عالمية متطورة … أولوية
  • وتطويق المصائب التي تحدث في المستوى الإعدادي… أولوية. (في هذا المستوى أي في سنّ 13 – 16 سنة) يتكثف الانقطاع وتنتشر الزطلة ويتصاعد العنف وتتشكل فيه نهائيا الشخصيات المأزومة والأمزجة الملغومة.
  • إلخ….

الفكرة الرابعة والأخيرة : رسالة إلى سيادة رئيس الجمهورية

على رئيس الجمهورية أن يمضي في تصريحاته المتعلقة بالتربية والتعليم إلى مداها الأقصى ويبعث مجلسا مؤقتا للتربية والتكوين والتعليم العالي (لأن الأصل في أن تكون هذه الآلية الاستشارية دستورية وممثلة بشكل ديمقراطي لكل الجهات المحمولة على أن يكون لها رأي في سير هذا المرفق الحيوي) يكون متخفّفا تماما من الانتماءات الحزبية وكذلك بل وخاصة متجرّدا من حسابات أي نوع من الامتيازات والجاه والسلطان ويُعهد إليه بمهمة عاجلة وحيدة :

إنقاذ سفينة التربية والتعليم من الغرق النهائي من خلال حزمة من الإجراءات الآنيّة التي لا يستغرق التداول بشأنها أكثر من شهر أو شهرين وتكون نافذة على سبيل المثال بداية من السنة الدراسية القادمة.

ويتحتّم أيضا في سياق ذلك عدم انتهاج سياسة “الطاولة المُمحاة” أي ضرورة السعي إلى تثمين مكتسبات الماضي ورسملة ما هو إيجابي في منظومتنا التربوية والتكوينية والتعليمية اليوم وكذلك ما أتت به مختلف الإصلاحات المتعاقبة أو محاولات الإصلاح التي جرت في مختلف مراحل تطور المدرسة التونسية.

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version