في مختلف كلماته أو بلاغاته التي نشرتها صفحة الرئاسة طيلة الأسبوع الماضي كرّر رئيس الجمهوريّة قوله “لا تطاول على الدّولة و لا تطاول على رموزها” و لكّنه أغفل ما كان الشعب يريده ويرجو سماعه فعلا وهو “لا تطاول على الشعب” … الشّعب الذي تكتّلت ضدّه كل الظروف ليعيش موجوعا مطحونا مهموما مغموما … الشعب الذي تطاولت عليه دولته عندما تناسى مسؤولوها شواغله و اهتماماته و انبرى كلّ واحد منهم في سعي محموم نحو تحقيق طموحاته
ألم تتطاول هذه الدّولة على حقّ البعض من أفراد شعبها في الحياة ، في التّنفّس ، في استنشاقهواء نظيف ، في العيش في محيط سليم … ؟
ألم تتطاول هذه الدّولة على صفاقس وعلى سلامة سكانها حينما تركت مشكل النفايات يتفاقم و يبلغ درجة من التعفّن لا مثيل لها ؟
صفاقس التي عانى سكانها منذ عقود و مازالوا يعانون من مخلّفات المصانع الملوّثة و من بينها “السِياب” التي ناضل النّاشطون البيئيّون طويلا من أجل التّوصّل إلى إغلاقها بعد مرور أكثر من نصف قرن على إنشائها و بعد آلاف الأطنان من الفوسفوجيبس الملقى وسط المدينة و بعد إتلاف المئات من الهكتارات من الأراضي الزّراعية المجاورة و تلويث كيلومترات عديدة من البحر ممّا جعل منها مدينة ساحليّة دون شواطئ … و ما كاد المصنع يغلق في صائفة 2019 حتى برزت على السطح بعد سنتين فقط أزمة القمامة و كأنّه كتب على متساكني المدينة أن لا يرتاحوا من التّلوّث، فصار المواطنون يعيشون بين أكداس القمامة فحيثما ولّيت وجهك لا ترى إلا الأكياس تحتلّ الأرصفة و الطرقات و السّاحات و المفترقات …
ألا يعتبر تطاولا على المواطنين أن تتلكّأ الدّولة في إيجاد حلول لهذا المشكل المزمن ، وزارة بيئة و وكالات مختصّة لم تكفها أشهر طويلة لتنهي الدّراسات و تمرّ إلى تجسيد الحلول … و سلطات جهويّة محلّية تُحَمِّل كل واحدة منها المسؤوليّة إلى الأخرى في عركة سياسيّة مفضوحة آخر أهدافها حقّ المواطن في صفاقس في بيئة سليمة، حتّى صار ملف الزّبلة حلبة صراع و فرصة لتسجيل النّقاط ضدّ الخصوم الخاسر الوحيد فيها هو صفاقس المنكوبة.
لو كنّا نعيش في دولة تحترم حق مواطنيها في العيش السّليم لما تجاوز هذا الإشكال أسبوعا واحدا، ولتجنّدت كلّ مؤسسات الدّولة و لوقعت دعوة كفاءات البلاد و خبرائها لإيجاد حلول فوريّة تحمي المواطنين من العواقب الصّحيّة و النّفسية لهذه النّفايات
و كأنّ ذلك لوحده لم يكن كافيا لتنضاف إليه أزمة اندلاع الحريق بمصبّ الميناء و لتعيش المدينة على امتداد ثلاثة أيام تحت ضباب الدّخان المتصاعد و الغازات السّامة و الروائح الكريهة و ليصاب البعض بالاختناق وتتوقّف الدروس بعدد من المؤسسات القريبة و تتعطّل مظاهر الحياة في المدينة
ألا يعتبر تطاولا على المواطن أن يعيش وسط القمامة و النفايات التي تهدّد سلامته ؟
أليس تطاولا على المواطن أن يستنشق روائح الحرائق السّامّة و الغازات الخطيرة ؟
أليس تطاولا على المواطن أن يعيش في بيئة ملوّثة لمدّة تتجاوز السنة ؟
ألا يكفيه أنّه يعاني شأنه شأن باقي التوانسة من غياب عديد المواد الأساسيّة و من غلاء الأسعار لنزيده همّا على همّه؟
أليس من مظاهر التطاول على حق المواطن شروع الحكومة المستتر في رفع الدّعم ؟ و إلاّ بماذا نفسّر انقطاع الأرزّ المدعوم و عودته بعد ذلك بسعر مضاعف أو بماذا نفسّر غياب الحليب المدعوم عن الأسواق وتوفّر الحليب ذي التسعيرة المرتفعة و باقي منتجات الألبان ؟ أو بماذا نفسر غياب الزّيت و السّكر و الارتفاع الجنوني لأسعار الطماطم و البطاطا ؟؟
أليس ذلك تطاولا على قدرة المواطن الشرائيّة ؟ أليس تطاولا على جيوب الفقراء ممّن تضيق بهم الحياة يوما بعد يوم ؟ ألا يعتبر ذلك تطاولا على حق المواطن في الحياة ؟ تطاولا على حقه في العيش الكريم إن تركوا لنا كرامة في هذا البلد ؟
ألم ينادِ المواطنون ذات ثورة بالخبز و الحرّية و الكرامة الوطنيّة ؟ فأين نحن من هذه الشعارات اليوم ؟ أليس تطاولا على رغبات الشعب و إرادته أن يفقد كلّ ما طالب به ؟
ألا يعتبر ما حدث في جرجيس و مع أهالي جرجيس منذ حادثة غرق المهاجرين غير الشرعيين و حتى يوم الأمس تطاولا على الكرامة الانسانيّة و على الحق في المعلومة و إفراطا في استعمال العنف لقمع التحرّكات ؟
ألا يعتبر الاعتداء على المعلّمين النواب المحتجين على وزارة التربية بسبب تراجعها عن وعودها و اتفاقياتها تطاولا على الحقّ في التّظاهر و الاحتجاج السّلمييْن؟
ألا يعتبر استدعاء كاتب صحفي للتحقيق بسبب مقال رأي أصدره و تحدّث فيه عن رئيسة الحكومة نوعا من التطاول على حرّية التّعبير و التّفكير معا ؟
ألا يُعتبر تصريح والي صفاقس منذ أيام و تشبيهه للمدوّنين و النّاشطين الفايسبوكيين بـ”كلاب السّوق” تطاولا على كرامة السّكان و حقّهم في التعبير و ثلبا و تشويها لهم ؟
ألا تعتبر رغبته في إغلاق الفايسبوك تطاولا على حرّية التعبير و اعتداء على الحقّ في المعلومة ؟
فإذا كانت الدّولة و رموز الدّولة يتطاولون على مواطنيهم في كلّ نواحي الحياة فإنّ التّطاول حينها لن يُلاقى إلاّ بالتّطاول و البادئ أظلم …