حادثة تلك التلميذة واستاذها والتي شغلت الناس والوسواس الخنّاس ذكّرتني برائعة الكاتب الروسي دوستويفسكي (الجريمة والعقاب) …
دعوني في البداية اذكّر وفي كلمات قليلة بماهي رواية الجريمة والعقاب للعملاق فيودور … هي رواية اجتماعية فلسفية نفسية تتمحور حول بطلها راسكو لينكوف … هو طالب جامعي قابع في الفقر والعوز سوّلت له ظروفه اقتراف جريمة نكراء حيث قام بقتل عجوز للاستحواذ على اموالها والتخلّص من براثن الخصاصة …لكنّه بعد ارتكاب جريمته دخل في صراع نفسي حادّ وطرح من خلاله الكاتب عدة قضايا نفسية وفلسفية مثيرة جدا لعلّ من اهمّها تصنيف البشر الى اقوياء وخائفين … ثمّ جاءت الفكرة المفصلية في قول المجرم عند توصيف جريمته .. قررت قتل العجوز الصمّاء والطاغية من اجل اتاحة الفرصة لمن اضطهدتهم وانا واحد منهم، لحياة افضل … ويختم بمقولته: استولي على السلطة سواء بالمال او بالقوة، ليس من اجل الشرّ ، بل من اجل سعادتي وسعادة الاخرين …
رواية الجريمة والعقاب كانت محلّ بحث ودراسة لعديد الناقدين في الادب وحتى في علم النفس واوّلهم فرويد … ما سردته لكم من رائعة دوستويفسكي هو جزء ضئيل جدا من بداية روايته التي تتشعب وتتعدد احداثها … لكن ما همّني فيما ذكرته تركيبة شخصية الفرد وظروفها وتعقيدها اجتماعيا ونفسانيا وخاصة خصوصيات ايّة شخصيّة حتّى نتفادى اسقاط الاحكام جزافا عند نقد او تحليل شخصية اخرى ..
الشخصية البشرية في تقديري هي تماما كالبصمة او كالحامض النووي .. وما نلوم عليه زيدا لا يمكن البتّة ان ينسجم مع ما نلوم عليه عمرًوا .. ومثلنا الشعبي محقّ في التعبير عن ذلك بالقول (البطن صبّاغة دبّاغة( او (صوابع يديك موش مستوية) .. ولعلّ امهر القضاة ذلك الذي يحكم في ايّة قضيّة بخصوصياتها هي …وبالقانون والوجدان …
هذه المقدّمة ومعذرة عن الاطالة اردتها مدخلا لما حدث اخيرا بين التلميذة واستاذها وخاصة امام ردود الافعال المناصرة او المناهضة لتلك او ذاك .. في تقديري المتواضع اعتبر الطرفين مذنبين …ابدأ بالتلميذة مبدئيا ما قامت به هو مُدان …ولكن ساخرجها من بطاقة تعريفها كتلميذة واحاول وضعها في اطارها كانسانة ..هي طفلة في السابعة عشر من عمرها …اي بالتحديد كانت سنة 2011 بنت ستّ سنوات … على ماذا تربّت ؟؟ اجتماعيا ثقافيا اسريا اعلاميا …؟؟؟ نعم هي المذنبة ولكن الضحية ..كيف لمن يزرع نوارة الدفلى ان ينتظر زهرة القرنفل ؟؟
آتي الان الى الاستاذ وكذلك سانزع من بطاقة تعريفه صفة الاستاذ لأحكي عنه كانسان ..لن اذكر حول ما نُسب اليه من تنمّر رغم انني وبكلّ امانة تابعته في عديد المحطات الاعلامية كضيف ورأيت فيه الانا المضخّمة تمشي على كرعيها …ولكن ساعيد سي المهذّب ومعه كلّ الاساتذة دون استثناء الى مراحلهم التلمذية …كنّا جميعا بما في ذلك الاساتذة الافاضل يوما ما تلاميذا ..الم نكن نتنمّر على اساتذتنا .؟؟. الم نكن لا نطيق ربع ساعة من دروس البعض من اساتذتنا ؟؟ الم نكن نتفنن احيانا في السخرية منهم ونعتهم بابشع النعوت ؟؟
الفارق بين زمننا وزمن الجيل الحالي يكمن في انهيار مرتفع لمجتمع القيم اوّلا ولكن خاصّة في وسائل تنمّرنا واستهزائنا وشيطنتنا .. سابقا كنا نتفنّن في صنع طائرات من ورق كراساتنا والقائها على الاستاذ وهو منهمك في الكتابة على “السمبورة” .. اتذكّر جيدا حادثة كنت زعمة زعمة فيها البطل ذات بداية صيف حيث كان يجلس امامي زميل يرتدي كحذاء شلاكة بوصبع ويضع ساقا على ساق ويكتفي بـفردة واحدة يضع عليها رجليه …غافلته وسحبت الفردة وبحركة رياضية قذفتها على المصطبة حيث كان سيدي الطاهر الحشيشة استاذالعربية رحمه الله يكتب بالطباشير بعض اوزان بحر شعري في مادة العروض ..
ومن سوء حظّي ان وافق وصول فردة الشلاكة الى ملعبه مصطبة القسم وطاولته وكرسي الاستاذ ..ونظر اليّ سي الطاهر الله يرحمو وحكّ اذنه وقال شنوة سجلت الهدف يا قطاطة ؟ والغريب انه رغم جريمتي لم يكن هنالك عقاب ….الان تحوّلت شيطنة تلاميذنا الى الفيسبوك والتيك توك ..لكن مقابل ذلك كان لنا مدرّسون نذوب فيهم عشقا وهؤلاء وان اصبحوا قلّة نادرة الا انهم مازالوا في مدارسنا ومعاهدنا وكلياتنا ..واقول ذلك عن تجربة ..
انا درست عندما كنت تلميذا وطالبا عند الصنفين ودرّست 15 سنة بالجامعة وعرفت الصنفين كذلك .. ومن خلال ما عشته وعايشته احمّل المسؤولية بدرجة اولى للمربّي …لانّه وبوعي تام برسالته والحبّ الساكن فيه كرسول للنور والمعرفة اي كمربّ يستطيع ان يوصل التلميذ المشاغب المشاكس المتنمّر الى مرحلة عشقه لاستاذه … نعم سياتيه ذلك التلميذ جاثيا على ركبتيه ليطلب الغفران والودّ …
ورجاء من بعض المربّين الذين هم دوما ينبرون في الدفاع القطيعي عن هيكلهم ان يكفّوا عن ذلك لسببين اوّلهما هم اوّل من يعرفون انّ قطاع التعليم وككل القطاعات ليس خاليا ممن لا يشرّفون هذه المهنة النبيلة وثانيا كلّ من يعرفني من اساتذتي ومن اصدقائي يعرفون تقديري اللامشروط للمربين ..
اختم بالقول: التلميذة التي تنمّرت على استاذها مخطئة ..وهي جريمة ..ولكن القضاة في عقابهم لها حضر عندهم القانون وغاب الوجدان ولا اظنهم وجّهوا حتى عتابا صغيرا للاستاذ … كيفاش يصير منّو هو ؟.. تي راهو هاكة سي المهذّب وما ادراك … سي المهذّب لو تعامل بكلمات مهذّبة واعية بما آلت اليه منظومة هذه السنوات العجاف اخلاقيا وسلوكيا لما كانت الجريمة ولما كان العقاب … سي المهذّب …كلّنا ومهما بلغ بنا العمر والمعرفة والوظيفة، نحن في الاخير تلاميذ وبحاجة دائمة لمزيد التعلّم …