الجزء الثاني من الجولة في أروقة وزارات التربية العربية (بعد المصطلحات… الدلالات)
نشرت
قبل 11 شهر
في
حاولت في الورقة الماضية تصيّد بعض الاختلافات الاصطلاحية التي تُسجل في مستوى الخطاب التربوي بين بلد عربي وآخر، وكان ذلك على نحو طريف لا يُعبّر عن موقف مُسبق يستهجن بعض الاستعمالات بقدر ما يعكس الامتداد الواسع للمنطقة العربية، وثراء اللسان العربي نفسه الذي يسمح بتطويعات وتوليدات زاخرة من رحم اللغة الأم.
وبينما كنت بصدد رصد أشكال التعبير المستخدمة هنا وهناك، تصوّرت أنه قد يكون من المفيد أيضا ضمّ الدال إلى المدلول ومحاولة التوقّف عند بعض التباينات الدالّة في التوجهات التربوية وإبراز القواسم المشتركة التي فرضتها روح العصر، ونزوع الجميع إلى تحقيق الغايات التي تنتظرها كل المجتمعات، وخاصة النامية منها، من قطاع التربية والتعليم.
أول الانطباعات الصّادمة التي عشتها وأنا أتصفّح ورقات التربية في مختلف البلدان العربية على الويب هي وجود بلدان محسوبة على المنتظم العربي لكن ليس لها من العروبة شيءٌ يذكر : لا لغة ولا مرجعيات ولا برامج دراسية ولا تأكيد على الانتماء إلى الجرجاني أو الريحاني.
فعلى سبيل المثال، في جزر القمر، باستثناء اسم وزير التربية “تقي الدين يوسف”، لا شيء مطلقا يوحي بأنك في حضرة أناس من بني جلدتنا، فكل مضامين الموقع الرسمي لوزارة التربية هناك موضوعة باللغة الفرنسية. أما وزير التعليم الوطني والتكوين المهني في جيبوتي فلولا البسملة المكتوبة بالأحرف اللاتينية في مستهلّ كلمته الافتتاحية بموقع الوزارة
Bismillahi Rahmani Rahimou Asalamu Caleikum à vous tous
لخُيّل إليك أن هذا البلد إفريقي تماما معتزّ بفرنكوفونيته ولا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد بالأفغاني أو الهمذاني.
من جهة أخرى، يُطلق على وزارة التربية والثقافة والتعليم العالي في الصومال بالصومالية
Wasaaradda Waxbarashada, Hiddaha Iyo Tacliinta Sare
أما الموقع فكله باللغة الانكليزية أو الفرنسية أو الصومالية المحليّة ولا أثر للّغة العربية في ثناياه.
الملاحظة الثانية تتعلق بالإنشائيات العارمة في مناخات تربوية قاتمة
كل المواقع الرسمية لوزارات التربية في البلدان العربية تتبنّى خطابا تقدّميا متشابها يشي بأن الأنظمة الماسكة بالحكم اليوم مُدركة تماما للأهمية الإستراتيجية التي يكتسيها قطاع التربية ودوره الحاسم في تشكيل ملامح ما ستكون عليه مجتمعاتنا في المستقبل، ولكن ترتيب تلاميذنا في المسابقات الدولية وتموقع جامعاتنا ضمن النسيج الأكاديمي العالمي ومستوى أداء مخابرنا العلمية لا تعكس زخم الخطاب الرسمي والدّيباجات المُطرّزة التي تتصدّر البوّابات التربوية المختلفة.
فعلى سبيل المثال تَعتبر السودان أن “التعليم العام أساس التنمية البشرية المتعلقة ببناء القدرات وتوظيفها لتوسيع الخيارات فى حياة كريمة ومعافاة.” وتؤكد السعودية أن “التعليم يُعتبر احد العناصر الرئيسة في منظومة التطوير الشاملة التي تعيشها المملكة وهو أحد الممكنات الرئيسة التي تجعل هذا الوطن الكريم يتبوّأ الصدارة في كافة المجالات…”. ويُنادي وزير التربية والثقافة والتعليم العالي الصومالي بأن هدف وزارته هو “تلقين طلبتنا المعارف والمهارات والسلوكات الضرورية التي تليق بمجتمعات آمنة ومُنتجة”. ويعتبر المغرب أن “الطفل على الأخص، هو في قلب الاهتمام والتفكير والفعل خلال العملية التربوية التكوينية…”.
وهكذا يبدو جليّا أننا نشأنا على الإنشاء حتى أصبحنا نُنشئُ خطابا ننشد فيه قيما وغايات لا نهتم كثيرا بمدى قابليّة تحقّقها. والإنشاء عند أهل العربية – حسب القاموس- يُطلق على الكلام الذي ليس لنسبته خارج تطابقه أو لاتطابقه أي لا يمكن تصديقه أو تكذيبه.
الملاحظة الثالثة هي قدرة جل الأنظمة التربوية على التأقلم – على مستوى الخطاب- مع قيم العصر الحديث
يكاد لا يخلو موقع تربوي واحد من الحديث عن “مجتمع تربوي ريادي مُنتمٍ مشارك ملتزم بالقيم نهجه العلم والتميز وصولاً للعالمية” كما في الأردن أو “تعليم ابتكاري لمجتمع معرفي ريادي عالمي” في قطر و”إطلاق مجلس السعادة وجودة الحياة” في الإمارات وبعث “شبكات للمدارس الإيجابية” في كثير من بلدان الخليج، إلخ…
الملاحظة الرابعة هي ظاهرة إقحام السلطان أو الدين في الخطاب التربوي وبشكل تعسفي في كثير من الأحيان بموجب وبدون موجب
يقول ملك المغرب على سبيل المثال “لقد شاءت الأقدار أن تُنهي اللجنة الملكيّة أشغالها دون أن يطلع والدنا المشمول برحمة الله على نتائجها” ويقصد اللجنة التي عُهد لها بوضع مشروع ميثاق وطني للتربية والتكوين…
وتتحدث وثيقة تربوية خليجية عن ضرورة “إيجاد بيئة تنافسية تسير – بمشيئة الله وتوفيقه- نحو تحسين وتجويد الأداء وأخرى عن توجيهات أصحاب السموّ – حفظهم الله ورعاهم- الرامية إلى دعم الأولويات وتحقيق استدامة التعليم قبل إنهاء الجملة بــ “الحمد لله الذي جعل العلم ضياء والقرآن نورا ورفع الذين أوتوا العلم درجات”.
الملاحظة الخامسة : أجندات العالم التربوية تحطّ رحالها في كل البلدان تقريبا
إن كان ثمّة قاسم مشترك رئيسي بين البلدان العربية في مجال التربية، فهو تبنّي مفردات الخطاب التربوية السائد اليوم في العالي مثل تكريس التحول الرقمي في التعليم وإدراج أهداف التنمية المستدامة التي أعلنتها منظمة اليونسكو والأمم المتحدة، كالعمل من أجل القضاء على الفقر وحماية كوكب الأرض وضمان تمتع جميع الشعوب بالسلام والازدهار بحلول عام 2030 . بالإضافة إلى مهارات القرن 21 أو المهارات الليّنة وتنويع المسالك والاستجابة لتعدد ملامح التلاميذ وأهمية التدريب على المهن وإتاحة أكبر قدر ممكن من التنافذ بين مسارات الدراسة، وأهمية الإصغاء إلى الناشئة وحمايتها من مخاطر الإدمان على مُنتجات المنظومات الرقمية، إلخ…
الملاحظة السادسة والأخيرة : في التوجيه المدرسي، وحدة المسارات وتباين نمط تشبيكها
تشترك أغلب الأنظمة التربوية العربية في العناوين العامة لمسارات الدراسة في المرحلة الثانوية، مثل تفريع الدراسة في الثانوي إلى فرع للعلوم العامة وفرع لعلوم الحياة وفرع للاجتماع والاقتصاد وفرع للآداب والإنسانيات (لبنان) أو علوم الحاسب والهندسة ومسار الصحة والحياة ومسار إدارة الأعمال بالعربية السعودية … لكن يظل التباين الأكبر كامن في ما تُتيحه (أو لا تُتيحه كما هو الشأن بالنسبة إلى منظومتنا التربوية في تونس) هذه الأنظمة من معابر بين المسارات العامة والمسارات المهنية والقطع مع “النظرة السائدة حول مفهوم التعليم الثانوي بأنه مرحلة تأهيلية للتعليم الجامعي فقط” كما ورد في أحد المواقع.