جور نار

الحقيقة أكبر وأكثر تعقيدا ممّا تراه …

حكايتان من الواقع بطعم أمريكي

نشرت

في

غالبا ما نبني نحن معشر البشر أحكامنا على ما نراه بالعين المجرّدة قائلين “رأيتها بأمي عيني”، ولا نُعير أهمية لما قد يكون مخفيّا بشكل محكم عن قصد أو من دونه،  ولا نترك مسافة حذر كافية تحسّبا لما يغمره ضباب التواصل، أو ما تستّر عليه محدّثنا أو عمِل بدهاء على التعتيم عليه لغاية دفينة لا يعلمها إلا هو.

<strong>منصف الخميري<strong>

أقول هذا وأنا أستحضر حكايتين عشتهما شخصيا في فترتين مختلفتين من حياتي المهنيّة أعتقد أنهما تُجسّدان بشكل ما هذه الظاهرة.

الحكاية الأولى :

ذات يوم من سنة 2011 لمّا تحمّلت مسؤولية الإشراف على ولاية سليانة، أعلمتني وزارة الإشراف آنذاك بموجب مكتوب رسمي أن سفير الولايات المتحدة الأمريكيّة سيؤدّي زيارة إلى مدينة مكثر لمعاينة تقدّم أشغال بناية تابعة لإحدى الجمعيات المدنيّة تمّ تشييدها بتمويل من جهة أمريكية رسمية، وفي طريقه إلى مكثر، كان من المفروض حسب ما يقتضيه البروتوكول أن يمرّ بمقر الولاية ويُجري حديثا مع المسؤول الأول بالجهة.

جدّت زيارته قُبيل إجراء انتخابات المجلس التأسيسي في أكتوبر 2011، فكانت فرصة بالنسبة إليه لجسّ النّبض ومعرفة إلى أي مدى سيَقبَل التونسيون يمؤدّيات العملية الانتخابية التي كان الأمريكان يعرفون تفاصيلها أكثر منّا كما كان بيّنا في تجاويف حديثه.

كانت ترافقه امرأة أمريكية تتقن الفرنسية وتتولّى مسك دفتر دوّنت فيه كل ما دار بيننا من حديث (بأسئلته وأجوبته واستطراداته…). لم ترفع رأسها لمدّة ساعة كاملة تقريبا إذ كانت مشغولة بتسجيل كل شيء. وكان من جملة ما سجّلت في دفترها اسم الكاتب الأمريكي مارك توين (وأعتقد أنني ذكرته في علاقة بتعبير شائع له حول سرعة الكذب في الانتشار، إذ يقول “فيما الحقيقة ما تزال تنتعِل حذاءها، تكون الكِذبة قد لفّت أرجاء الكون“)… تدوينٌ يبدو بسيطا في ظاهره لكن سيتبعه طردٌ بريديّ وصلني بعد بضعة أيام يحتوي على مؤلّف لهذا الكاتب الأمريكي المعروف. دغدغتني عروبتي ونخوتي التونسية فقلت في نفسي “حتى نحن لدينا مارك تويننا ولا بدّ لي أن لا أترك الكرة في ملعبي”…اقتنيتُ كتابا مترجما للفرنسية لأبي القاسم الشابي وأرسلته إليه.

لكن ليست هذه الحادثة الأهم :

لمّا انتهى اللقاء، والحديث لم يكتمل بعدُ تماما، ترافقنا إلى حيث كان سائق ينتظره، فاندهشت لعدم وجود سيّارات أخرى في انتظاره ولا وجود كذلك لأي نوع من أنواع الحماية الخاصة به. فلم أتردّد في إلقاء السؤال عليه : “لا أرى حضورا أمنيا خاصا يُصاحبكم، هل هذا مؤشّر على تقييمكم لوضعنا اليوم بكونه آمنا… خاصة بعد أول عملية إرهابية في تونس غير بعيد عن هنا بالروحيّة في 18 ماي 2011 ؟”

ابتسم أمريكيّنا وقال لي : “شكرا على اهتمامك ولكن لا تزعج نفسك كثيرا، فلقد تأكّدنا من سلامة مسلكنا بشكل مُسبق” !!! 

ودّعته ولكن لم أودّع السؤال الذي ظلّ يركض في رأسي دون هوادة “كيف لكم أن تتأكدوا من مسلككم وأنا لا علم لي بذلك وكذلك زملائي العسكريون والأمنيون الذين تقاسمت معهم في تلك الظروف الصعبة بيوت المسكن الوظيفي ووجبات الغداء والعشاء والليل الطويل ؟ !!”

الحكاية الثانية  :

تتمثل في لقاء جمعني ذات يوم سنة 2006 مع وزير التعليم العالي والبحث العلمي الأستاذ الأزهر بوعوني رحمه الله على خلفيّة مذكّرة إداريّة رفعتها له وتتصل بعرض أمريكي عبّر عنه ممثل السفارة الأمريكية بتونس (وهو تونسي) الذي زارني في مكتبي بحكم أن موضوع العرض له علاقة بالشؤون الطلابية، وتحدّثت يومها مع زائري بشأن ظاهرة الطلبة التونسيين الراغبين في الدراسة بالخارج ومسبّبات هذا التوجّه قبل الوصول إلى الموضوع الذي قدِم من أجله. أكّد لي بأن الدولة الأمريكية تعرض حوالي 200 منحة جامعية للطلبة التونسيين في مختلف الاختصاصات ومختلف الجامعات وأنه سيتمّ توضيح مقاييس الانتداب لاحقا بعد موافقة السلطات التونسية.

بدا لي لأول وهلة أن العرض مُغر وقد يشكّل فرصة ثمينة أمام عدد هام من الطلبة التونسيين خاصة أولئك الذين يمتلكون قدرا مهمّا من السيطرة على اللغة الانكليزية لمواصلة دراساتهم العليا في جامعات مصنّفة جيدا على المستوى العالمي في اختصاصات معيّنة بلادنا في أشدّ الحاجة إلى خرّيجيها.

رحّبت مبدئيا بالفكرة وأثنيتُ على نُبلها كما تقتضيه أعراف التواصل ووعدتُه بأن أتصل به حالما أتلقّى إجابة رسمية من الوزير الذي يعتبر الجهة الوحيدة المخوّلة للبتّ في مثل هذه المسائل.

أتذكّر أنني صغت مذكّرة موجزة تتضمّن توضيحا موضوعيا للعرض الأمريكي دون السعي إلى إضفاء أي نوع من أنواع الترحيب أو الاستهجان، إزاء هذه الوِجهة الدراسية الجديدة غير التقليدية التي تُفتح أمام الطلبة التونسيين.

بعد يومين أو ثلاثة، دعاني الوزير إلى الحضور بمكتبه. سحب المذكّرة وأصرّ لي بأنه من مساندي القطع تدريجيا مع الوِجهات التقليدية للتونسيين في مجالات الدراسة الجامعية والتبادل التجاري ومعالجة الأوضاع البيئية إلخ… “أنظارنا مشدودة دائما نحو الأنموذج الفرنسي…لنلتفت قليلا نحو آفاق أخرى…على الأقل نُجرّبها” (كانت هذه تقريبا كلماته التي استعملها).

لكنه أردف بعد لحظات أن الوِجهة الأمريكية يرتاب منها وأنه يخشى كثيرا من نزعة تجنيد شبابنا في مسالك تلتحف بالديمقراطية وحقوق الانسان، ترعاها وتُموّلها بسخاء كبير جهات غير رسمية أحيانا لكن لها معابرها وعلاقاتها المتينة مع أصحاب القرار المباشر. وبناءً عليه، عبّر على أنه لا يرى أي موجب للزجّ بأبنائنا في متاهات لا نعلم عاقبتها مؤكّدا أنه على 200 طالب تونسي يلتحقون بالجامعات الأمريكية سيتمّ تجنيد 90 % منهم على الأقل في مسالك معادية.

سألته : …وهل يجب أن أكاتب زائري لإعلامه بأن الوزارة تفضّل إرجاء إنفاذ هذا العرض إلى وقت لاحق ؟

أجابني : “ولِمَ نترك أثرا مكتوبا؟ بإمكانك انتظار شهر آخر أو اثنين ثم تهاتفه لتقول له إنك مازلت تنتظر ردّا من الوزير!”.

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version