لم تكن الحريات الصحفية والإعلامية المتسعة نسبيا في السنوات الأخيرة للرئيس الأسبق حسني مبارك منحة من أحد، ولا هدية مجانية هبطت على صالات التحرير واستوديوهات الفضائيات.
كما لم تكن هي من أطاحت بالنظام، فقد لقي مصيره الحتمي بانسداد القنوات السياسية والاجتماعية وتفشي الفساد وزواج السلطة بالثروة و “سيناريو التوريث” وإغلاق أبواب الأمل في أي إصلاح سياسي من داخله. الحق فيحرية الصحافة تعبير عن قدرة المجتمع، أي مجتمع، أن ينظر في أزماته ومشاكله باستقصاء المعلومات دون زيف وتبادل الرأي بكل حرية. حرية الصحافة درة الحريات العامة التي تضفي على البلد، كل بلد، انتسابا إلى العصر الذي يحيا فيه. بتعبير لافت لمراسلة صحفية إيطالية طلبت من رؤسائها إنهاء عملها في القاهرة، ونقلها إلى موقع آخر في آسيا: “لا يوجد عمل صحفي حقيقي في القاهرة الآن، لم تعد العاصمة المصرية منتجة للأخبار التي تهم العالم، والخبر الوحيد الذي ننتظره هو من يخلف مبارك”.
كان ذلك التعبير في توقيته ورسالته انعكاسا لما كانت عليه الأوضاع في مصر، رغم الحرية النسبية التي كانت تتمتع بها الصحف الحزبية والخاصة والتراكم التاريخي في الدفاع عنها. لم يخترع أحد حرية الصحافة، كل جيل يساهم بما يقدر عليه وتحتمله ظروفه، التراكم هو الأساس مهما بدا التجريف فادحا. في تلك السنوات جرت معارك ومناوشات واحتجابات صحف وتواترت دعوات تلح على توسيع الهامش المتاح. انتقلت عدوى الحرية من صحف المعارضة إلى كتاب الرأي فى الصحف القومية، واستوديوهات التحليل السياسي في الفضائيات الخاصة واصلة إلى تلفزيون الدولة. كانت أهم معارك حرية الصحافة إلغاء العقوبات السالبة للحرية في قضايا النشر.
في عام (1995 ــ 1996) جرت احتجاجات لا مثيل لزخمها اعتراضا على قانونين يغلظان العقوبات في جرائم النشر. لاحت دعوات لاحتجاب الصحف احتجاجا على تغول السلطة التنفيذية وعدوانها، لكنها لم تتجاوز حدود التلويح. في خطوة مفاجئة صبيحة افتتاح المؤتمر العام الرابع للصحفيين يوم الاثنين (23) فبراير (2004) وعد مبارك بإلغاء العقوبات السجنية في قضايا النشر. كانت تلك محاولة لامتصاص الاحتقان وسط الصحفيين من تنامي معدلات الحبس في قضايا نشر. عند إعلان الوعد الرئاسي لاح في الأفق أملا في توسيع الحريات الصحفية ورفع سيف الحبس عن رقاب الصحفيين، غير أنه تعرض لضربات متتالية شككت في المدى الذي يمكن أن يذهب إليه فى تحسين البيئة العامة المأزومة. بعد عام بالضبط على الوعد الرئاسي صدرت أحكام جديدة بحبس صحفيين في قضايا نشر، كان طرفها الآخر وزير الإسكان الأسبق الدكتور محمد إبراهيم سليمان. بدا ذلك إحراجا بالغا لهيبة الرئاسة حيث تقوض وعده واهتزت صورته. إثر الغضب الذي اجتاح الصحفيين اضطر الرئيس إلى التدخل لإجبار “سليمان” على التنازل عن كل القضايا التي رفعها على الصحفيين. وفي عام (2005) أقدمت صحف المعارضة على تسويد بعض صفحاتها تعبيرا عن رفض ما جرى من تحرش بإحدى الصحفيات على سلالم نقابة الصحفيين أثناء دخولها فيما كانت هناك وقفة احتجاجية على ما جرى من تزوير فيى الاستفتاء على تعديل الدستور. في (9) يوليو (2006) احتجبت الصحف الحزبية والخاصة احتجاجا على مشروع قانون استحدث نصا يوجب حبس الصحفي إذا طعن فى الذمة المالية للموظفين العموميين وأعضاء المجالس النيابية المنتخبة والمكلفين بخدمة عامة. كان ذلك النص المستحدث انعكاسا لتوحش الفساد فى البلد. جرى استخفاف مفرط في مراكز السلطة بفكرة الاحتجاب وما قرره رؤساء تحرير الصحف الحزبية والخاصة من إجراءات. قيل: “لن يشعر بهم أحد”.. “فى غيابهم راحة بال”.. “إنهم يعاقبون أنفسهم”.. غير أن الاحتجاب نجح بصورة فائقة هزت النظام من أعماقه. قاطع القراء شراء أية صحيفة قومية لم تشارك ـ بتعليمات السلطة ـ في الاحتجاب. عكس نجاح الاحتجاب جوا عاما جديدا يرى في الصحافة الحرة مستقبل البلد. وجرى احتجاب ثان في (7) أكتوبر (2007) على خلفية عودة الحبس في قضايا النشر نال هذه المرة من عشرة صحفيين مرة واحدة بينهم رؤساء تحرير. صادف ذلك الاحتجاب عكس ما جرى في المرة الأولى مقاومة شرسة، جرت ضغوط على بعض رؤساء التحرير، حاول بعضهم أن يتملص من تعهداته، غير أن قوة الإرادة العامة أجبرت الأطراف جميعها على المشاركة فى الاحتجاب. كان ذلك الاحتجاب رسالة جديدة بأن مصر تتغير. لسنوات طويلة كان النظام مستعدا لدفع فاتورة حرية الصحافة واحتمال تكاليفها، باعتقاد أنها تساعد على تحسين صورته وتخفف الضغوط الدولية عليه. سرى اعتقاد واسع في أوساط السلطة أن النظام هو أكثر المستفيدين من الحريات الصحفية، بظن أنها محدودة في صحف بعينها، وأن الصحافة القومية يمكن أن تضبط الإيقاع، غير أن تلك الصورة تبددت، فالصحافة القومية بدت كأفيال تذهب إلى مقابرها، العوالم اختلفت مع ثورة المعلومات، واحتياجات المجتمع توسعت وتعقدت، ولم يعد ممكنا السيطرة عليها بالطرق القديمة. فى خريف (2010) تبدت نذر ومخاوف من انقضاض واسع محتمل على هامش الحريات الصحفية والإعلامية في مصر، فرغت منابر صحفية من أدوارها المعارضة بصفقات رجال أعمال، وأغلقت برامج على فضائيات. كان ذلك تطورا خطيرا افتقد الحد الأدنى من الرشد السياسي.. فالحريات الصحفية والإعلامية ضمانة عامة تحصن المجتمع ضد العنف والانخراط فيه، وتعطيه أملا في التغيير السلمي الآمن. الحوار ــ مهما كان صاخبا ــ يجري فى العلن، لغته التغيير السلمي وقضيته الإصلاح السياسي والدستوري، ومادته قضايا الناس الحياتية. عندما تقلصت الحريات الصحفية بقبضة السلطة، غامت الرؤية فى البلد، وافتقد المجتمع أي بصيص أمل، وبدأت السيناريوهات الأخرى تتفاعل في المجهول. في حيرة نظام “مبارك” بين الانفتاح على الحريات الصحفية والتلويح في البرلمان بضرب الصحفيين بالأحذية داهمته العواصف في يناير (2011).