كانت الزاوية حديثة البناء و كان إمامها وقتذاك الشيخ أمل المهدي. صعد الشيخ إلى شرفة المئذنة ليؤذن للفجر فانتبه إلى صوت يصدر عن البيت المواجه للزاوية، مد بصره نحوه فرأى امرأة تفتح النافذة و رجل يطبق يده على فمها ليمنعها من الاستغاثة، ثم يجذبها إلى الداخل تحت المصباح الغازي المضيء، ثم ينهال عليها ضربا بشيء في يده حتى تهاوت ساقطة. عرف المرأة كما عرف الرجل، أما المرأة فهي ست سكينة أرملة صاحب مقلى، و أما الرجل فهو المعلم محمد الزمر صاحب وكالة خشب. تسمّر الشيخ أمل المهدي في مكانه متدثرا بالظلام مرتعد الفرائص من الرعب حتى أغلق المعلم النافذة، و راح يتمتم:
ـ لقد قضى على المرأة.
و خانه صوته فلم يستطع أن يؤدي الأذان.
جريمة قتل، ماذا أوجد المعلم في هذه الساعة ببيت الست؟، توجد أكثر من جريمة، ارحمنا يا رب السماوات و الأرض ǃ
و هبط السلم الحلزوني بمشقة ثم جلس على الأرض راكنا إلى المنبر ظهره، و جاء أوائل المصلين فهالهم منظره و سأله بعضهم:
لمَ لم نسمع صوتك يا شيخ أمل؟
فأجاب لاهثا:
ـ بي مرض و الله أعلم.
و كان المعلم محمد الزمر هو من تبرع ببناء الزاوية، هو الذي اختار الشيخ إماما لها و رتب له أجره، تذكر الشيخ ذلك فقال يخاطب نفسه:
ـ يا له من امتحان عسير من رب العالمين ǃ
و رقد الشيخ في بيته ثلاثة أيام و لم يفتح فمه.
و انتشرت أنباء الجريمة في الحارة فعرف كل من هب و دب أن الست سكينة وجدت قتيلة في حجرة نومها و هي بجلباب النوم. و بدأ التحقيق، و استدعي فيمن استدعوا الشيخ أمل المهدي.
سأله المحقق:
ـ ألم تسمع صرخة أو صوتا ملفتا للسمع و أنت تؤذن؟
فأجاب:
ـ كنت مريضا فلم أؤذن تلك الليلة ..
ـ أنت جار للقتيلة ألا تعرف عن علاقتها بأحد؟
ـ كانت سيدة فاضلة و لا علم لي بشيء.
و غادر الشيخ حجرة المحقق و هو يقول لنفسه: “إني لمن الهالكين”
و جعل يبكي بشدة من الحزن و العجز.
و اكتشفت في أثناء التحقيق سرقة بعض قطع من الحلي فحامت الشبهات حول صبي كواء كان يتردد على البيت و فتش مسكنه فعثر على الحلي و بذلك وجهت إلى الشاب تهمة القتل.
بدا ذلك كله منطقيا إلا عند الشيخ أمل، تابع الشيخ أنباء الجريمة باهتمام جنوني، مضى يحترق في صميم أعماقه و ينهار عصبا بعد عصب. كان ورعا تقيا و لكن شجاعته كانت دون ورعه و تقواه.
و من شدة القلق و الحزن تهدم و دب الضعف في أعصابه.
و التقى ذات يوم بالمعلم محمد الزمر أمام السبيل القديم فشد على يده كالعادة، و عند ذاك انتفض كأنما مس ثعبانا، و حدق فيه بقوة غريبة حتى تساءل المعلم:
ـ ما لك يا شيخ أمل؟
فوجد نفسه يقول:
ـ لقد رآك الله ǃ
فدهش الرجل و سأله:
ـ ماذا تعني؟ .. أنت مريض؟
فهتف به:
ـ اعترف بجريمتك يا قاتل ǃ
ثم هرول إلى الزاوية فأغلقها على نفسه بالمفتاح و المزلاج. لبث في سجنه يومين كاملين لا يستجيب لأهله و لا لأحد من الناس.
و عند مغرب اليوم الثالث فاجأ أهل الحارة بظهوره في شرفة المئذنة، و لكن أي ظهور كان؟. تطلعت إليه الأبصار بذهول و راحوا يقولون: