ما زالت صورة و مشاهد تلك الخزانة التي فتحوها بعد هروب بن علي عالقة في ذهني.و من منا لا يتذكر السيول الهادرة من الكلام عن غنى الدولة و شح رجال الدولة و رفضهم توظيف تلك الكنوز للقضاء على الفقر و نشر الرخاء بين صفوف الشعب…في ذلك الوقت ما كان أحد يستطيع مسح لعاب الطامعين و كبح جماحهم و إقناعهم بأن الكنز المزعوم لا يكفي لبناء مستشفى أو تعبيد كيلومترين من الطريق … و كيف لأحد أن يفتح فمه وسط أصوات تصم الآذان متبجحة بالنصر المبين على الفساد و رموزه و أتباعه و أزلامه و ذيوله هلم جرجر !
و لعل ما يهمنا من استحضار هذه الواقعة هو إقامة الصلة بينها و ما يحدث في البلاد منذ ما يزيد عن تسع سنوات و المتمثلة في رسوخ عقلية…”اعطيني منابي و لا يرد فاس علىهراوة”…و ما زاد الطين بلة أن الزعماء الجدد لم يكترثوا للنزوع الأهوج نحو افتكاك الامتيازات عنوة بل كانوا في غاية السخاء مع من يمكن أن يعطل سيرهم نحو الهيمنة على المشهد السياسي و غنم الكراسي … و ليس يخفى أن القيادات الوافدة على السلطة قد استسهلت بل استخفت بالدولة و هياكلها و دواليبها و اعتقدت أن النصوص الشعبوية و الكلام الفضفاض كاف لتحويل اليابسة الى خضرة و العوز إلى رخاء … راحوا و بجرة قلم يعزلون و ينصبون غير مبالين بالتفريق بين من كان مخلصا للدولة وبين من كان مخلصا للنظام .
و شيئا فشيئا بدأت المؤسسات تتهاوى الواحدة تلو الأخرى و انخرمت الموازنات و استفحل داء التداين و تكشّف لكل صاحب بصيرة أن النزيف يتعاظم عاما بعد آخر ، و أن الماسكين بزمام السلطة لا يمتلكون رؤية لكيفية تسيير البلاد فضلا عن النهوض بها … و اليوم حين نعاين هدا الطوفان من المطلبيات نتأكد بما لا يدع مجالا للشك من أن الناس قد فقدوا الثقة في قدرة الحكام الجدد على إعادة الأمل إليهم و أن الغد يمكن أن يكون أفضل من اليوم … و كيف لهم أن يتوهموا مجرد التوهّم بأن حالهم يمكن أن تتحسن في حين أن الواقع يثبت لهم بالرؤية المجردة بأن القوم منغمسون في صراعات مجّها الشعب و تعفف عنها ؟… صراعات لا صلة لها مطلقا بما يعانيه الناس من تدهور في كل المجالات … صراعات تحت رايات إيديولوجية عفا عليها الزمن و أهملها أصحابها الأصليون … صراعات من أجل تأصيل ثقافة كسر عظام الخصوم لمجرد الاختلاف معهم و لمجرد الوهم بأحقية التكلم باسم الشعب و تجريم الصوت المخالف.
و رغم أن كل الشواهد تدين من يدعون خدمة الشعب و آخرها تقرير محكمة المحاسبات و انكشاف جشعهم و نفاقهم فإنهم يصرون على غيهم، حتى أن أحد الأطراف المدانة بالحجة و الدليل أعلن عن نيته في رفع قضية ضد المحكمة .. ما شاء الله !
و السؤال الذي يتطارحه الناس في كل مكان و بكل حرقة: ما الحل و إلى متى ستظل هذه الشخوص المستبدة تعاند و تكابر و هل ثمة ملاذ و فرصة للخلاص؟ … أما الجواب فلن يكون غير أن تتحمل النخب التي تؤمن بالوطن حقا مسؤوليتها كاملة و أن تنبذ الشعبوية المقيتة الرائجة في صفوف الزعامات الزائفة و المشعودة…و لن يكون الجواب إلا بمواجهة الشعب و تحميله المسؤولية كاملة عما يجري في البلاد أليس الشعب هو من اعطى صوته للدجالين و للطامعين في الاستيلاء على قوته ؟…أليس الشعب هو من ترك حقه في التنمية و الارتقاء به حاضرا و مستقبلا لينساق وراء دعاة الفتنة و تفكيك أواصر الانتماء إلى وطن واحد؟… أليس الشعب هو الذي تبنى عقلية المبشرين بثقافة النهب و “خوذ بايك على بكري” و لو على حساب أخيك…
على الشعب أن يتصدى إلى من يعملون على إفساده بالرشاوى و يتباكون على حاله و هم سبب ما يعيشه من بلاء… و مع ذلك سنظل واثقين من أنه لن يلدغ أكثر مما لدغ و لن يدع الخونة و المرتزقة و أذيال الأجنبي يواصلون تدمير البلاد … ومتى تأكد من خواء خزائن علي بابا و من أن الشعوب تنهض بالعمل و لا شيء غير العمل، فإنه سيصغي حتما لمن يقول له كما تكونون يولّى عليكم … فكونوا أسياد أنفسكم و كفّوا عن ملاحقة السراب، فهذه تونس أمامكم فاستردّوها لأنها رأسمالكم الحقيقي و شرفكم أمام الأمم …