نحن أكثر ناس مدفونين في الماضي … هذه بديهة تشرّبناها منذ الأولى ثانوي إن لم أقل أبعد، و قد مات الجيل الأوّل من أساتذتنا العظام و قسم من الجيل الثاني أي من تلاميذهم … رحمهم الله و لا رحم الذين سمعــوا الكلام فدخل من هذه الأذن و خرج من تلك الأذن و بقيت “عشّة” لقمــان على حــالها …
و حتى ينفض العبد يده مرة واحدة … أيزعجك القول بأن الشابي لم يكن أشعر الشعراء، و لا المسعدي أبلغ الناثرين، و لا فترة نويرة عصرنا الاقتصادي الذهبي، و لا منتخب الأرجنتين ذروة الفن الكروي، و لا علي الرياحي قمة الفن الغنائي؟ … هذه و غيرها مسلّمات قد يتم تكفيرك و يُهدر دمك عند الشك فيها … و لكن أليس من جرّائها أننا وقفنا كالشجر الميّت طوال ربع قرن، نصف قرن، قرن بكامله لم نتحرّك حركة و لم ننبت ورقة خضراء و لم نعط ثمرة واحدة؟ … بالعكس فقد كان المسير حثيثا إلى الخلف، و الذي يشهد الرايات السود ترتفع في ساحاتنا وعشرات النساء ينادين بتعدد الزوجات … من يرى هذا يقول: يا خسارة ستين سنة وستين ميزانية أنفقناها على قطاعات التربية و التعليم العالي و الشؤون الثقافية …
حصرنا أنفسنا في شعر الشابي، في حين قامت شرقا و غربا خاصة مئات من الأعلام و الأقلام و القرائح تجاوزت نفسها و حققت ما لا يخطر على بال … و قدّسنا سرديات المسعدي بينما لم يعد أحد ـ و منذ زمن ـ يفهم معنى “هلهبا هلهبّا” اللهمّ إلا إذا فرضنا بالقوة عليه حفظها في برامج الباكالوريا … و ننسى أنه إذا كان الأوّل “مشروع” شاعر كبير لم يكتمل برحيله المبكّر، فإن الثاني عاش عمرا مديدا ذهب معظمه في الوظائف الحكومية و لم يترك لنا سوى ثلاثة أو أربعة عناوين … و هي حصيلة كاتب مبتدئ لا قامة فكرية تغطي عين الشمس … فقبع محدود الانتشار لا يعرفه أحد خارج خريطتنا، بينما تجمّدت المدوّنة الشعرية التونسية في بيتين يتيمين … و هما، مقارنة بما يُقرأ من شعر، من أبلد و أركّ ما كتب هو و ما كُتِب عامة …
و قس على ذلك باقي مسلّماتنا و مواضينا … و ما يزيد الخرق اتساعا، هذه الأحكام التي تعوّد العرب على إطلاقها كالرصاص الحيّ: عبقرية لن تتكرر، فذّ يستحيل أن يجود الزمان بمثله، فلتة لا تولد إلا كل ألف سنة … و الأخيرة لطالما قالها الزعيم عن نفسه، أمام حملقة جمهور مؤمن من غير سوء … و يتبع ذلك سيل من المقارنات التي تجمّل القديم قياسا إلى معايب الجديد، أو تحضّ هذا الجديد على أن يعيد عجلة الساعة ويستنسخ العصر الغابر على أنه كان من ذهب خالص …
إلى اليوم لم نسمع في النمسا من يقول مات الفن بعدك يا موزار … و لا في ألمانيا من ينازع الأمريكان على جنسية إنشتاين … و لا في فرنسا من يصرخ بأن “هوغو” هو الأسد و البقية عيال عليه … و في بريطانيا من يخطب أن جُمِّع العلم في جوف نيوتن … أو في إيطاليا من يفتي بتحريم الرسم بعد لوحة الجوكوند … نتباهى إلى اليوم باختراع الصفر، و رغم أن هذه الأبوّة محل جدل تاريخي، فماذا يقول الآخرون و ولاية كاليفورنيا لوحدها اخترعت ترقيما كاملا و رقمنة قلبت وجه العالم؟ …
بل لنتخيّل هؤلاء “الآخرين” حين تدول دولتهم في يوم مّا كما حصل معنا، و يأتي الدور عليهم لاستذكار ماضيهم الذهبي … كم سيلزم لأحفادهم من أيام و أعوام و هم يعددون مآثر سلفهم الصالح … من عشرية واحدة للقرن العشرين فقط؟؟؟