عندما تصير شرعية القرار السياسي مستمدّةً من البيولوجيا
نشرت
قبل 4 سنوات
في
تحضرنـــي هذه الأيّام، أكثر من كلّ الأشهر التي مضت في أتون الكوفيد، تلك المشاهد التي قلبت العالم رأساً على عقبٍ. صور سنتي 2002 و 2003 حيث اِتّفق خبراء وكالة الطّاقة الذّريّة و العلماء و السّياسيون و المحلّلون و ممثّلو الدّول الوازنة على أنّ العراق يشكّل خطراً داهمًا على السّلم العالميّ، و الواجب الإنسانيّ هو إنقاذ العالم منه.
و الكلّ يذكر، طبعاً، تلك الصور لكولن پاول و هو يعرض على ممثّلي العالم « الحجج الدّامغة »، المنبنية على تقارير هانس بليكس و محمد البرادعي ( نوبل للسلام عام 2005) لامتلاك العراق منظومة نوويـّـة مدمِّرة. و الكـــــلّ يعرف اليوم أنّ كلّ ذلك كان كذباً و بهتاناً و افتراءً.
إنّ العارفين بالتاريخ يدركون أنّ مثل هذا الكذب الصفيق و القاتل للآلاف، ليس هو الأوّل من نوعه و لـــن يكون هو الأخير عبر التّاريخ … بالنسبة للدّارس المتأنّي، فهذه التّركيبات المحبوكة و الثقيلة النّتائج لا تندرج في باب الأمور التي أنتجتها الأشباح المتآمرة أو التأوّل المزاجيّ، بل هي مواد و معطيات موضوعيّة، معقُدّة لا محالة، و لكنّها تُدرس و تُشرح من جهة أسبابها و طرق تشّكلها و غاياتها بأدوات تحليل عقلانيّة هادئة و إنْ كان بشكلٍ ما بعــدي. طبعاً، زمــن الزوبعة، يحدُث أن تتعالى أصوات ذكيّة و تحاول فضح البرنامج و لكنّها سرعان ما تُهمّش و تُتفّه و تُحال على الهامش بتهمة « فكر المؤامرة » أو ما شابه من طلقات كاتم الأصوات الحــــرّة.
إنّـــي أرى فيما يحدث الآن في علاقة بالكوفيد تناظرًا كبيراً مع ما حدث حول أسلحة العراق المزعومة. إِذْ بقي المشترك قائماً بين « خطّة الكوفيد » و « خطّة العراق » وهو : تحشيد العلماء و الخبراء و استبعاد المناوئين منهم و اتّفاق رؤساء الدّول الوازنة حول التدابير الواجب اتخّاذها على نحو و ايقاع كارثييْن ثم الدّعم بالحجج العلمية الدامغة من قبل المنظمات الدولية البرّاقة و طبعاً استنباح كلّ وسائل الإعلام ليسريَ التخويف و تُثَبّت « الحقائق » في ذهن كلّ البشر في كلّ شبر من الأرض.
و لئـــــن كانت غايات « خطّة العراق » منبنية أساساً على إعادة تشكيل منطقة الشّرق الأوسط و وضع اليد على البترول في أفق تموقع جيو إستراتيجي في علاقة بالصّين و روسيا، فإن غايات « خطّة الكوفيد» منبنية أساساً على إعادة تشكيل طرق عمل النّسيج الاقتصادي العالمي في أدقّ تفاصيله.
فهذا النظام، بالنّسبة إليهم قد اهترأ و صار منتجًا للعديد من الأزمات و معطّلا للرّبح (تكلفة العمال و المحلات والنقل و الوقت …إلخ). و عليه وجب تغيير هـــــــذا المنوال القديم بالمنوال الرّقميّ الذي أخذ بعدُ في التّمركز في حياة البشر في كـــلّ أنحاء العالم و لكن ليس بما يكفي من الانتشار في القطاعات و الثّبات و السّرعة لجعله محورياً و نهائياً.
و لجعـــــل هذا المنوال الجديد محورياً و نهائياً يجب دفع البشر على القبول به. كيف؟
بأن نزجّ بكلّ المنظومات التربويّة و التجاريّة و التواصليّة و الخدماتيّة في الرقميّ بما هو العمود الفقريّ الجديد للمنظومة الليبراليّة المتوثّبة(disruptive). و لعـــــلّ أهمّ وسيلة لإرسائه هي التخويف بالاعتماد على البيولوجيا تحت تعلّة « هذا ما يقوله العلم و ما تؤكّده المخابر و نحن نخاف على صحّتكم! ». و هكذا تصير شرعية القرار السياسي مستمدّةً من البيولوجيا(Biopolitique). و في هذا الصدّد كتب الفيلسوف الايطاليّ جورجيو آغمبان كتابه الألمعيّ (Homo Sacer) سنة 1995. و لمن اطلّع عليه يعرف أنّ الأمر، على ما هو عليه الآن، كان منتظراً كما عرضه بالتحليل الدّقيق في وارد خطّ البحث الممتدّ من والتر بنيامين إلى ميشال فوكو. و طبعاً هُوجم آغمبان و همّش و حوصر عندما كتب بعض الأسطر فقط أوّل «خطّة الكوفيد » منبّها من خطرها و فاضحاً لغاياتها و هو الآن ملزمٌ بالصّمت!
ثــــمّ إنّ ما يحدث الآن، خلال هذه الموجة الثّانية، من توجّه عام بل بالأحرى- توجيهٍ مفروضٍ- نحو «الاقتصاد الرقميّ» و «العمل عن بعد»، كنّا نراه و نتحسّسه عبر الإصلاحات و التّوصيات التي تُسديها الهياكل البنكية و المانحة و المقرضة الكبرى للدّول و الحكومات في الجنوب و الشمال على حدّ سواء على امتداد السّنوات الماضية. كما أنّنا نلاحظ أنّ الاندراج في الرّقميّ قد صار الآن – و بسرعة خارقة- أمراً لا يكاد يناقش، بل صرنا نسمع ترويجاً له لا كاضطرارٍ أملاه الوباء وقتيّاً بل كبديلٍ منواليّ ممكن و أنجع من طرق العمل الحضوريّة القديمة. «فقط نتعوّد عليه»!
فمنظومة التعليم الفرنسي عن بعد بالفيديو مثلاً، هي الآن بيد شركة خدمات رقميّة تابعة لآمازون(Collaborate)! هذا مثال فقط من بين المئات من النّشاطات التي استحوذت عليها الشّركات الرّقميّة في كبرى دول العالم خلال فترة الكوفيد … و لكم أن تنظروا في حجم مبادلاتها و أرباحها في بورصات العالم لتتيقّنوا من حجم الرّهان على “الخطّة الكوفيديّة في بسط المنظومة الرّقميّة”.