فكرت طويلا قبل أن أكتب مقال اليوم ، فكّرت حتّى في الاعتذار فالكلمة مسؤولية و الصورة حاليا ضبابية … فجاءت هذه الكلمات التي لا ينظمها غير حب الوطن و بعض تداعيات الاسبوع الماضي …
صاحب مقولة الدّستور أكله الحمار تصرّف في الدّستور حسب رغبة الشعب الذي خرج إلى الشارع مطالبا بحلّ البرلمان و رحيل الحكومة فانقلب على من انقلبوا على مبادئ الديموقراطية و الفهم الصحيح للسياسة بما هي حسن إدارة الشأن العام باسم الشعب لفائدته لا لفائدة جماعة أو مجموعة بعينها و تنفيذا لأجندات خاصة، انقلابا أشاد به الشعب و خرج مبتهجا محتفلا حتى ساعات متأخرة من الليل فالشعب لا يهمه الدستور ولا تعنيه فصوله و قد يكون البعض لم يفهم حتى كيف فسّر سعيّد الفصل 80 فكل ما يعنيه هو أنه أخرجهم من دائرة الضوء . فلا يمكن لأي كان أن ينكر أنّ الشعب سئم من هرطقات النوّاب و كره “عرعور” المجلس . و من جاع و عجزعن تدريس أبنائه أو أخفق في الحصول على عمل أو فشل في توفير الدواء أو الأوكسيجين او تلقّي التلقيح في ظروف آدميّة لا يهمه الفصل الثمانون او التاسع و الثمانون و لا غيره … فالدستور وحده لن يحفظ له كرامته و قوته و مستقبل أبنائه …
طرحت منذ أربعة أيام سؤالا بسيطا على أصدقائي الفايسبوكيين قلت فيه : “ماذا تنتظرون من قيس سعيّد ؟ ” و حصلت على ما يفوق الـ 150 إجابة أجمع فيها حوالي الثلثين على الرّغبة في المحاسبة في حين طالب البقية بتحسين الظروف الاقتصاديّة و المعيشية للفرد و مكافحة جائحة كورونا و ضرورة عودة الإنتاج و قيم العمل و الاهتمام بالبيئة و إيلاء قيمة للتعليم و الصحة العمومية و الثقافة … و لعل التركيز على المحاسبة و المطالبة بالعدالة و المساواة أمام القانون قد يكون بسبب ما شعر به المواطنون طيلة سنوات من مرارة و عجز أمام تغوّل بعض الفئات و استقوائها على الجميع و قد يكون أيضا من وحي خطابات سعيّد الذي كان يتحدّث دوما عن المؤامرات و الغرف المظلمة و التطاول على القانون والفساد و الفاسدين .
المواقف مما حصل متعددة و متباينة بين الرفض التام سواء لأسباب مبدئية بالنسبة لبعض الساسيين أو الحقوقيين أو بسبب الضرر الحاصل كما هو الحال بالنسبة لجماعة النهضة و ائتلاف الكرامة و بعض النواب الذين وقع تجميدهم و رفع الحصانة عنهم و بين التّشجيع الأعمى الذي يصل حد ” التبندير” بالنسبة لأنصار قيس سعيد القدامى و الجدد و بين المساندة المتعقّلة المشروطة بالحفاظ على الحقوق و الحريات و ضرورة الاحتكام إلى القانون في أية محاكمة أو تعامل مع المذنبين سواء ممّن أساؤوا إدارة الشأن العام أو التصقت بهم تهم إرهابية أو ثبت فسادهم دون تشفّ أو انتقام، خاصة مع ما نراه من اندفاع لدى أنصاره و في مجموعاتهم الخاصة من طلبات تصل أحيانا حدّ التطرّف في الرّغبة في الانتقام والمطالبة بالزج بجميع الخصوم في السجن مع حملات التشويه و ترويج الإشاعات و أحيانا تلفيق التّهم دون إثباتات أو أدلّة تذكّرنا بحملة “ديغاج” التي رفعت في وجه المسؤولين بعد 14 جانفي دون قرائن أو أدلّة و أفرغت الإدارة من كوادرها و جاءت بوجوه موالية للنظام القائم ساهمت في تغلغله في مفاصل الدولة إن الشعب التونسي.
و لئن رأى في إيقاف بعض المارقين على القانون ممن رفعت عنهم الحصانة و وضع البعض الآخر قيد الإقامة الجبرية فإنه مازال ينتظر تركيبة الحكومة القادمة و يريد أن يعرف أولويات الرئيس و مخططه للفترة المقبلة و ينتظر من الرئيس أن يخرج و بخاطبه و يشرح له تصوره للفترة القادمة فحالة الغموض تجعل الأصوات المشكلة ترتفع و الخطاب المضلل ينتشر… فلابدّ أن يحصّن الرئيس نفسه و محيطه من تأثيرات الثورجيين الناقمين و أن يتجنّب اتخاذ قرارات أو وعود شعبوية تورّطه في قادم الأيام و أن يحسن استغلال الإلتفاف الشعبي في البناء و التقدّم … ولابدّ أيضا أن تكون مؤسسة الرئاسة أكثر انفتاحا على الإعلام و أكثر شفافية و وضوحا مع الشعب بتخصص نقطة اعلامية يومية قارّة من أجل توضيح ما يقع اتخاذه من اجراءات حتى لا يقع الناس في فوضى الإشاعات و تصديق الأكاذيب و ترويجها.
يقول الكثيرون :” ليس أسهل من الهدم .. لكنّ البناء و التشييد هو ما يحتاج إلى طاقة و جهد و تخطيط ” ، و لئن كان هدم تغلغل النهضة و من والاها من انتهازيين في مفاصل الدولة أمرا غير هيّن و يحتاج تخطيطا واضحا و قدرة على الفعل فإن من أوكد الأولويات في هذه الفترة بعد التخلّص من أخطبوط الإخوان هو بناء البلد من جديد و قد دمّرته عشر سنوات من حكمهم و التركيز على إنعاش الاقتصاد إنعاشا حقيقيا لا مزيّفا و الاهتمام بمجالات الصحة و التّعليم و الثقافة من أجل خلق شعب واع قادر على التفكير الحرّ و النّقد البناء لا تؤثّر فيه الإيديولوجيا المدمّرة و لا الوعي القطيعي.
إنّ الشعب الذي خرج مطالبا بحقوقه لا بدّ أن يدرك أن عليه واجبات أيضا و قد يكون أولها التخلّص من رياضة قلبان الفيستة و القفز من المراكب المثقوبة ، فلا شيء يضعف البلاد و يسيء إلى الحكام غير انتهازيّة بعضهم و تلوّنهم و عيشهم بمبدأ “مات الملك عاش الملك ” و من أهمها كذلك العمل و العمل ثم العمل و التخلي عن “التكركير و التكمبين “و الاعتناء بنظافة المحيط و احترام الوقت و القانون … وهذه أشياء لا يمكن أن يقوم بها أي سياسي فهي دور الشعب و مسؤوليّته .. و هكذا يكون الوقوف إلى جانب الحاكم من أجل مساعدته على قيادة البلاد لا بالشعارات الشعبوية المظللة التي تألهه و تقدسه و قد تتسبب في خلق دكتاتورية جديدة…
فمن يرددون اليوم شعار ” كلنا قيس سعيد ” قد كان بعضهم مع الباجي في فترة ما و مع المرزوقي في فترة أخرى و حتى مع بن علي في فترة سابقة .. و هو ما جعل كلا منهم يخطئ و يتصرف على خلاف رغبة الشعب… و لكن الشعب في النهاية يفرض إرادته و يتخلّص ممن مرّروا عيشته…. فلنعمل جميعا من أجل إعلاء شأن وطن لا من أجل إعلاء شأن حاكم انتخبه بعضنا ليحسن إدارة بلادنا وفق ما تقتضيه مصلحة الشعب لا وفق رغباته الشخصية…