تابعنا على

جور نار

“الدّابل بايند”تونسيّا… أو تونس بلد الإكراهات المُضاعفة

نشرت

في

يروي لنا عالم النفس والاجتماع الأمريكي بول واتسلافيك هذه القصة الطريفة لتفسير مفهوم “الإكراه المُضاعف أو المزدوج” (double bind  في الانكليزية و double contrainte في الفرنسية) :

منصف الخميري Moncef Khemiri
<strong>منصف الخميري<strong>

أمّ تزور ابنها وتُهديه ربطتا عنق، واحدة زرقاء وأخرى حمراء. أثناء الزيارة الموالية، استقبلها الإبن مبتهجا وفي عنقه الربطة الحمراء، فقالت له والدته : يبدو أن الربطة الزرقاء لم تعجبك ؟ في الزيارة الثالثة اختار الربطة الزرقاء، فقالت له أمه : بطبيعة الحال هذا جليّ، لم تعجبك الربطة الحمراء ؟؟ وفي المرة الرابعة لم يكن بوسع هذا الشاب إلا أن يلبس الربطتين معا لإرضاء أمه التي ردّت مصدومة : “لا أستغرب أن أراك اليوم في مركز شبابي لغير المتوازنين نفسيا يا ولدي”.

فالإكراه المضاعف هو أن يصدر أمران متناقضان ولا يمكن الاستجابة للأول دون الإخلال بالثاني بما يجعل الشخص الذي يتلقّى هذه الأوامر أو التعليمات عاجزا عن الاختيار ويجعله كذلك عُرضة لارتباكات نفسية وذهنية تصل حدّ العزلة والانغلاق. حسب غريغوري بيتسون أول المشتغلين على آليّة “الإكراه المضاعف” في السنوات الخمسين من القرن الماضي، فإن وضع الأطفال على سبيل المثال في وضعيات اتصالية متكررة تؤثثها التعليمات المتناقضة يولّد لديهم بالضرورة سلوكات سكيزوفرينية. يقول بيتسون “إن الشخص المُعرّض للإكراه المزدوج تغمُرُه مشاعر عجز وخوف وحنق دون أن يُتاح للمحيط إمكانية تحويلها.”

السياق التونسي تُربة خصبة جدا لإنبات الإكراهات المضاعفة

اجتماعيّا :

المرأة عندما تعبّر عن تحررها وابتهاجها بالحياة كسائر خلق الله يقع وسمها بالخفّة والتهتّك والتبرّج وحتى بأبشع من ذلك، ولكن عندما تعبّر عن استقامة وصلابة في المواقف توسم بالتحجر والتخلف وجفاف المشاعر وإلغاء كافر بأنوثتها، وفي كل الحالات هي خاسرة ومطالَبة ببذل جهود مضاعفة لإقناع المجتمع بأنها مستقيمة في غير برود ومتحرّرة في غير “مُجون”.

الفتاة عندما تتعرف على شاب وتأخذ لنفسها حيّزا من الوقت للتعرف عليه، قد تتقدّم بها السنّ نسبيّا وتُضيع وقتا ثمينا لأنها لم تُعجّل بزفافها، ولكنها عندما تستعجل الأمر قد تكتشف أبعادا لا يمكنها معها الاستمرار في العلاقة. بمعنى ان التجربة مهمة في ضمان ديمومة العلاقة لكنها مُكلفة اجتماعيا خاصة عندما تبوء بالفشل، ولكن انعدام التجربة يورط الفتاة بصورة خاصة (أكثر من الشباب الذكور) في علاقة ثنائية خاسرة بالنظر إلى مزاج الآخر واشتراطاته وعُقده وعلاقته بأمه ونظرته نحو المرأة عموما…

مدرسيّا :

يُطلب من المربين أن يكونوا مُجدّدين ومُبدعين ومُبادرين ولكن قد تقع مساءلتهم لكونهم اجتهدوا أكثر من اللازم، ولكن عندما يتقيّدون بما يُطلب منهم رسميا لا أكثر يوسمون بالجمود والتحجر وتقديس مضمون “الكراسات الصفراء”، ففي كل الحالات هم محجوجون ومغضوب عليهم.

في التوجيه الجامعي، يُقال للتلميذ الناجح في الباكالوريا إنه يتوجّب عليه بألاّ يكتفي بعدد قليل من الاختيارات التي يراها ملائمة أكثر من غيرها لمزاجه وميولاته وطبيعة مؤهلاته لأنه قد لا يتحصل على أي واحد منها ويظل مؤجلا إلى الدورات اللاحقة، ولكنه يتردد كثيرا قبل تعمير اختيارات إضافية (لا يرضاها لنفسه مهما حصل) لأنه قد يُقصى من الأولى ولا يبقى أمامه سوى القبول بالأمر الواقع : وضعية فيها شدّ عصبي وعاطفي كبير جدا متبوع بحيرة مزعجة وألم نفسي لا يوصف.

يُطلب من التلميذ أحيانا أن يكون تلقائيا في سلوكه، فإذا استجاب فذلك يعني أنه خضع (لاتلقائيا) للأمر الذي وُجّه له بما ينزع عن سلوكاته أي طابع تلقائي، أو عندما يُطلب منه أن يقول الحقيقة حول حدث ما بالمؤسسة أو داخل القسم، فلو قالها عُوقب وإن لم يقلها عُوقب أيضا.

في مؤسسات التعليم العالي إلى حدّ وقت غير بعيد، يُطلب من الطالب أن يستحضر شهادة تثبت الإعفاء من الخدمة العسكرية ولكن لكي يُعفى من أداء الواجب العسكري مؤقتا عليه الاستظهار بشهادة ترسيم في التعليم العالي. وهو إشكال سكيزوفريني كان يكفي اتصال هاتفي بسيط بين ديواني الوزارتين لتجاوزه وإعفاء آلاف الطلبة من تبعاته السلبية على أعصابهم ومبيتهم ومعيشهم ودراستهم.

إداريّا :

العسكري الذي يرغب في عدم خوض عمليات حربية محفوفة بالمخاطر، يُطالَب بأن يُقدّم مطلبا مُعلّلا يقول فيه إنه يعاني من اختلالات عقلية كبيرة تصل حدّ عدم القدرة على التمييز بين الصديق والعدوّ، ولكن مجرد التعبير عن القدرة في تكوين هذا الملف هو دليل على كونه يتمتع بملكات عقلية عادية تجعل منه جنديا قادرا تماما على خوض غمار الحرب والتمييز بين جيشه وجيش الأعداء. (كما في الشريط السينمائي Catch22 لمايك نيكولس الذي يروي قصّة الطيّار يوسّاريان خلال الحرب العالمية الثانية محاولا إقناع قيادته بأنه مجنون…دون جدوى).

يُقال للموظف إن عليه أن يجتهد ويُثابر ويُبادر لينال الترقيات التي هو جدير  بها، ولكنه لا ينال شيئا في النهاية لأن الترقيات تُسند بناء على مقاييس أخرى لا علاقة لها بالعمل والجهد… وعند اكتفائه بـــ”عشرة الحاكم” أي المجهود الأدنى، يُنظر إليه بنوع من الازدراء وعدم الاعتبار لأنه لا يضيف شيئا ولا يساهم في تطوير المرفق الذي يعمل صلبه. ففي كل الحالات هو مقهور ومقبور ومكسور.  

سياسيّا :

تعترض على سبيل المثال على مسار 25 جويلية المتعثّر والذي لم يقدر إلى حد هذه اللحظة على بناء شيء مرئي يراه التونسيون ويلمسونه، ولكن المساهمة في الإطاحة بهذا المسار يُعيد (أو على الأقل يفسح المجال أمام قوى العهد السابق) المشهد القديم الذي سئمه الناس في ظل اكتوائهم بويلاته وعبثه وجرائمه… ففي كلا الحالتين، نظل واضعين أيدينا على قلوبنا خشية عودتهم من ناحية وخوفا من مآلات حزينة لا نتوقّعها ولا نطمئن كثيرا لعدم وقوعها. هذا لوحده “حالة مدرسية” جديرة بأن تُدرّس لدى ورثة “مدرسة بالو ألتو بكاليفورنيا” كتيّار فكري اشتغل كثيرا على “الإكراه المُضاعف” في سياق نظريات الاتصال والعلاقات بين الأفراد والاضطرابات النفسية.

النظام السياسي “في سياق ديمقراطي” لا يمكن أن يقمع الناس بشكل فجّ، ولا يمكن أن يسمح بالتحركات الاجتماعية ويطلق لها العِنان في نفس الوقت لأنها مشروعة ويعرف جيدا أنها مشروعة، ففي الحالتين، هو نظام مهزوم في عيون الناس لأنه أكثر عجزا من أن يمارس قمعا سافرا وأوهن من أن يجترح حلولا وتصورات وسياسات تنهض بمعيش العِباد ومكانة البلاد. 

في سياقات مثل التي نحن فيها اليوم، تحمّل مسؤوليات عليا في مؤسسات الدولة قد يجعلك تساهم بشكل ما في تطوير بعض الجوانب الحيوية في حياة الناس، ولكن مثل هذه المهام قد تؤدي بك إلى مهالك لا تتوقّعها لمجرد إمضاء وثيقة إدارية لا تعلم ما الذي تُخفيه أو لمجرّد الاشتباه في “كونك جنيت فوائد لنفسك…”، فيفرّ الجميع وتنكمش الكفاءات الحقيقية ولا يبقى سوى الليّنين والطيّعين والآكلين على جميع الموائد والنائمين على كل الوسائد.

وأخيرا ريفيّا :

لا يمكنني أن أُنهي هذه الورقة التي حاولَتْ التعريف بالدّابل بايند بدون استحضار تلك الطّرفة الريفية الرائجة في دواخلنا التونسية والتي تقول إن جمعا من المزارعين أمسكوا يوما بذئب جائع يترصّد قطيعا من الأغنام، فوضعوه أمام اختبار مفخّخ وتعجيزي… وهو الحيوان الذكي الذي يتصف بدهاء ومكر خرافيين : قالوا له، أنظر جيدا إلى السماء وقيّم لنا مدى اكتناز الغيوم بالأمطار، فلو أمطرت قتلناك ولو أمسكَتْ قضينا عليك (بتصرف) ! فكّر الذئب مليّا وأجاب “والله مضيرطة” ! أيْ لاهي سماء واعدة ولاهي مُمسكة.

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

ورقات يتيم… الورقة 92

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

الميدان التليفزيوني عشت فيه تجارب اخرى احداها مع الزميلة جميلة بالي كمخرج لبرنامجها البيت السعيد …والسيدة جميلة بالي هي بالنسبة لي من افضل من قدم هذه النوعية من البرامج والتي تهتم بالاسرة وبالبيت …

عبد الكريم قطاطة

حضورها تلفزيا كان دافئا وثقافتها بكل ما يهم الاسرة والبيت شاسعة… لذلك حرصت كمخرج ان اوظّف الديكور والاضواء وزوايا التصوير لابرازها بمواصفاتها… تجربة اخرى اعتز بها بل واعتبرها من افضل تجاربي كمخرج تلفزي… انها منوعة قناديل … هي منوعة ثقافية بالاساس اجتمعت فيها عناصر عديدة لتؤسس لنجاحها لدى المشاهدين… تلك العناصر تمثلت اوّلا في حذق منشطتها الزميلة ابتسام المكوّر وجديتها وعمق خزانها الثقافي… ابتسام بالنسبة لي وفي ذلك الزمن كانت تمثل واحدة من افضل المنشطات اذاعيا وتلفزيا، هي وهالة الركبي… حضور متميز… ثقافة واسعة… وقدرة فائقة على التحاور…

العنصر الثاني تمثّل في مشاركة الاستاذ رضا بسباس في الانتاج اوّلا وفي تناول الموضوع المقترح لكلّ حلقة… وما ميّز الزميل رضا بسباس البحث في جوانب طريفة عبر العديد مما كُتب في الموضوع وعبر الامثال الشعبية لنفس الغرض… العنصر الثالث وهو من العناصر التي اعطت رونقا خاصا لبرنامج قناديل والمتمثل في تكفّل الزميل والصديق محمد العود رحمه الله بالجانب الموسيقي للبرنامج… محمد رحمه الله كان شديد الحرص على الانتقاء الجيد لنوعية الاغاني الخالدة واعادة توزيعها، و على اختيار الاصوات المؤدية لتلك الاغاني… محمد رحمه الله كان من الفنانين القلائل الذين لا عاطفة لهم في اختياراته وهو كسمّيع جيّد للعزف والتنفيذ صعب المراس… لذلك جاءت نتيجة تفانيه في عمله موسيقيا جيّدة للغاية…

وحرصت من جانبي على ان اتماهى مع هذه المجموعة لاخرج برنامج قناديل في حلّة جميلة… وهنا لابدّ من تحية الفنان الاستاد لمجد جبير الذي تكفل بصنع الديكور كاوّل تجربه له في الميدان التلفزي… والزميل نورالدين بوصباح كمدير للاضاءة وكافة الفريق التقني الذي عمل معي بكل حبّ وجهد … البرنامج لقي صدى ممتازا لدى السادة المشاهدين مما جعل بعض التلفزات العربية (كالـ”ام بي سي”) تفكّر في شرائه… هكذا قيل لنا والله اعلم….

نهاية برنامج قناديل لم تكن سارّة بالمرّة … نعم … وهاكم الاسباب… انا وابتسام كنا ومازلنا صديقين علاوة على الزمالة …ربما لاننا نشترك في خاصيات عديدة في شخصيتينا ..ومن ضمنها النرجسية …اي نعم .. اليس كذلك يا ابتسام ؟؟… من هذه الزاوية ابتسام كانت حريصة جدا على انتاج حلقات قناديل في موعدها وهي مُحقّة في ذلك …لكن وبقدر حرصي كذلك وعلى امتداد حلقات عديدة كي انجز تلك الحلقات اخراجا ومونتاجا وميكساجا، بقدر ايماني بانّ عملي يدخل في خانة الفنّ وليس في خانة الوظيفة .. والفنان بالنسبة لي قد تعتريه اوقات يجد فيها نفسه غير مؤهل للعمل …فيؤجل القيام بعمله لايام افضل …حدث هذا الامر مرة واحدة لم استطع فيها القيام بواجبي لاحضار الحلقة في موعدها ..هنا ثارت ثائرة ابتسام ولم تقبل بالامر …وكعادتها عندما تكون غاضبة زمجرت في وجهي وبكلّ حدّة …

ولانّ نرجسيتي لا تقلّ عن نرجسيتها ..رفضت زمجرتها وبكلّ حدّة ايضا وقلت لها (مانيش صوينع نخدم عندك) وانسحبت من اخراج البرنامج …وطبعا كان موقفها (محسوب كان انسحبت توة نعيّط لسي بوبكر) وهي تعني الزميل بوبكر العش رحمه الله… و(طززز فيك) .. هي لم تقلها للامانة طززز فيك ولكن ذاك كان موقفها ضمنيا …وفعلا اخذ زميلي العش على عاتقه مهمة اخراج قناديل بتصور اخر وديكور اخر …لكنّ التجربة لم تعمّر كثيرا ..ليس قدحا في امكانيات المرحوم ابو بكر بل ولانّي اعرفهما بعمق كنت واثقا انّ التناغم بينهما لن يكون في اوجه ….

تجربتي الثالثة في الميدان التلفزي كانت في خانة اخراج المباريات الرياضية (كرة قدم)… هذه التجربة سبقها تدريب تكويني في الغرض بدمشق ولمدة 21 يوما بمركز تابع للاتحاد العربي للاذاعة والتلفزيون سنة 1996… بعد اتمام التدريب الذي كان على درجة متميزة نظرا لكفاءة المؤطرين، كلّفتني ادارة التلفزة باخراج بعض مباريات النادي الصفاقسي سواء في البطولة الوطنية او في المسابقات الافريقية … وكنت فيها فاشلا بكلّ المقاييس … نعم … نقل واخراج المباريات الكروية يتطلب عنصرين هامين… اوّلهما التركيز الكلّي على مجريات اللعب مع الحرص على اختيار زوايا مختلفة لتنويع المشهد… والحرص خصوصا على عدم التفويت في ايّة لقطة هامة في المباراة ..وهنا ياتي دور العنصر الثاني وهو سرعة رد الفعل للمخرج في اختيار الكاميرا المناسبة التي تصوّر اللقطة الهامة… هدف او ضربة جزاء او اعتداء لاعب على اخر كامثلة …

قلت اني فشلت فشلا ذريعا في اخراج هذه المقابلات اوّلا خوفي من تفويت اللقطات الهامة اجبرني على اختيار الكاميرا التي ينحصر دورها في تصوير المشهد العام Plan général ///ككاميرا رئيسية طوال فترات اللعب ..وهو ما يجعل اللاعبين اشبه بالذباب فوق الشاشة .. ثم انتمائي وعشقي للسي اس اس جعلني في احيان كثيرة اتماهى مع لاعبي النادي بشكل ذاتي وانسى دوري كمخرج …اي نعم لم استطع في عديد اللقطات التخلص من ذاتيتي… بل احيانا كنت اصفق وارقص عندما يسجل فريقي هدفا ما وكاني واحد من قوم الفيراج … ولانّي كنت وخاصة في ما يتعلق بالامور المهنية قاسيا جدا في الحكم على نتائج الاعمال، ..اعتذرت لادارة التلفزة عن مثل هذه الاعمال التي كانت رديئة فعلا بمنظار علمي ..وادارة التلفزة كان موقفها من قراري (الحمد لله جات منك يا ميضة انت ناشفة وانا تارك صلاة) …

التجربة الاخيرة في الميدان التلفزي كمحرج خضتها مع زميلي زهير بن احمد ..كان البرنامج يحمل عنوان (دروب وآفاق) ..وهو ايضا من النوع الوثائقي …تنقلنا فيه الى عديد المناطق في صفاقس وخارجها لتصوير دروبها وآفاقها … كان فيها الزميل زهير ذلك الصحفي الهادئ الرصين والمتمكن وبحرفية من عمله ..وكنت فيه المخرج الذي حاول قدر الامكان ان يجتهد في حدود ما يتطلبه الشريط .. ولعلّ ابرز الحلقات التي بقيت راسخة في ذاكرتي حلقة تناولت صفاقس الجديدة كمشروع… حيث وقع هدم القناطر الثلاث التي كانت موجودة انذاك بطريق تونس وقرمدة والعين ..وحيث وقع ايضا تصوير اوّل قطار يدخل لصفاقس بعد تحويل مساره من صفاقس الى قابس …

تلك كانت تجاربي في ميدان التلفزيون كمخرج وكمنتج احيانا والتي لا يمكن في باب تقييمها الا بوصفها بالمتواضعة جدا ..ودون ما كنت اطمح اليه …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

بطولة في السماء أم هزيمة على الأرض؟ (3)

نشرت

في

عبد القادر المقري:

نحتار حقا في توصيف ما جرى السنة الأخيرة في منطقتيْ شمال فلسطين وجنوب لبنان… ومبعث الحيرة هذا الدفق اللامتناهي من الدماء والدموع والشجن الذي يملؤنا ولا يترك وقتا ولا مجالا إلا للانحياز للمقتول ضد القاتل، وللمغتصب ضد الغاصب، وللمنزل الطائر شظايا ضد الطائرة الحاملة دمارا وعدوانا.

عبد القادر المقري Makri Abdelkader

الدافع الثاني للحيرة هو ما يمكن تسميته بجلال الموت… نعم، ليس هناك من دليل أعلى على صدق أحد وبطولته وصفاء نواياه من أنه يقدم نفسه فداء لقضية ما… لذلك رحنا نطلق صفة الشهادة على من نتفق معه وهو حي، كما نطلقها على من نختلف معه حتى كليا عندما كان من هذه الدنيا… لا، الآن وبعد أن أهدى روحه على ميدان المعركة، فلا تجوز عليه سوى الرحمة والإكبار والتعميد بصفة الشهيد البار… المشكلة أن هذا المنطق يصلح في آداب التعامل مع الموت، في التنفيس عن مشاعر حنق تجاه عدو رئيسي ووجوديّ مكين… يصلح أيضا في رومانسيات الحروب وفرسانها الذين يستبسلون في معركة ويتحوّلون إلى أيقونات أمام عيون الصغار ودروس التربية الوطنية ومعاني الوطن… والعَبرة التي نشرق بها ونحن ننشد لحن الوفاء له، كلما رفرف علم وخفقت جرّاءه قلوب وتنادت أفئدة…

وتكبر الحيرة حين تختلط مع الرحيق المقدس أوشابٌ وأتربة وتساؤلات… نعم … للأسف لا تخلو كأسنا التي نتجرعها من بعض العلامات التي تجعلنا نتردد والزجاج الناعم يقترب من شفاهنا… جاء التردد من استرجاع بعض الصور والذكريات القريبة والبعيدة التي تقول لنا حذار… انتظروا… فاللون الأبيض النقي هو لون السكّر والملح في آن واحد، ورعود السماء تأتي بالمطر الطيّب والصاعقة القاتلة لنفس المُزارع المنتظر تحت شجرة… والبحار الطامية هي خير وسمك وبركة للصياد وهي أيضا الهلاك والغرق… تتشابه الأشكال بين مواد عدة وظواهر، ولكن هل تطابقت دوما الظواهر والجواهر؟

وتتداعى التمثّلات… ولكن على الأرض ماذا نقول في من قتلوا أنفسهم في عمليات داعش، وقتلوا معها تلاميذ مدرسة أو متزاحمين في سوق أو مصلين في جامع؟ … وماذا نقول في سقوط إرهابي صريعا ذات مواجهة مع الشرطة ويداه ملطختان بدم شكري بالعيد؟… وماذا نقول في المئات ممن غُسلت أدمغتهم فصاروا يعتبروننا كافة دار حرب وأقسموا على تصفيتنا فرادى وجماعات وهم معنا بالحزام الناسف؟ … للعلم فلهؤلاء مفتون من فئة خميس الماجري وأبي عياض والمرحوم حسن الغضباني، يسبغون عليهم نعت الشهيد بابتسامة هانئة وقلب مستريح… بل وينضمّ إليهم مذيع تافه لا همّ له سوى الحفاظ على كرسيّ أمام الكاميرا وريع سمين تحت أرجل الكرسي …

نهتف حتما للأبطال الذين استشهدوا، مع حسرة على فقدانهم وأمنية بأن يقتلوا العدوّ لا أن يسقطوا صرعى… الشهادة لهم لكن لنا الهزيمة في آخر المطاف… وهزائم الحروب ليست إنشاء ولا شعرا ولا لعبا بالمصطلحات… هي حصائل باردة لواحد مع واحد يساوي اثنين… من الذي خرج من الميدان (ولو شهيدا) ومن الذي بقي حيّا يصول ويجول؟… وهنا لا ينفع التأبين ولا التعظيم ولا الخلود ولا قناة الجزيرة… منطق الحرب أن تعيش لا أن تموت، وهذه أهم توصية تصدر عادة عن القادة وهم يوجهون جنودهم في مهمة… وحتى إذا شاء القدر وترك الواحد حياته على ساح الشرف، فيكون في المقابل أوقع بأعداد وافرة من صفوف العدوّ قبل أن يبذل الدم والروح…

ولكننا في هذه الموقعة إلى أين وصلنا وكم خسرنا من أرواح وكم خسر العدوّ؟ وكم كانت كلفة 7 أكتوبر 2023 وماذا كسبنا خلالها وأية رقعة حرّرنا؟ … دائما بمنطق الحروب القاسي، هذا ما حصل… عشرات الآلاف من مدنيي غزة والضفة وجنوبي لبنان، أعداد من “العسكريين” شبه العزّل تختلف الأرقام في تقديرها بين المتحاربين، ولكنها في النهاية كبيرة وموجعة… ويكفي أنها حرمت المقاومة من أهم قادتها وحتى التالين في الأهمية… دون الحديث عن دمار شامل فعلا لمدن وقرى وبلدات ومبان ومرافق تعجز قوى عظمى عن إعادة إعمارها بسرعة لو تمّت على أراضيها إثر كارثة طبيعية… فكيف بنا ولا زلزال سُجّل في غزة أو إعصار ضرب جنوب لبنان…

الزلزال الوحيد الذي ضرب أهالينا هناك كان قرارا بحرب غير متكافئة، سيئة التوقيت والحساب… بل ويجعلك تتساءل بعد هذا العبث وذلك الدمار: لفائدة من كل هذا؟ ولماذا انتقلت القضية من هدف تحرير الأرض إلى المناشدة بوقف إطلاق النار؟ ومن يعوّض لمن تيتّم أو ترمّل أو ثكل؟ ومن يؤوي الذين تشرّدوا؟ أم نكتفي بآية “لا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله…”، وبمقولة ذلك القيادي في حماس عن مدى انشغاله بملايين المدنيين المعرّضين للقصف والموت: أولئك مسؤولية المجتمع الدولي؟!!!

أكمل القراءة

جور نار

هل حان فعلا، رد الدب الروسي على استفزازات الغرب؟؟

نشرت

في

محمد الزمزاري:

إثر تصميم الغربيين على تزويد اوكرانيا بصواريخ بالستية لضرب روسيا في العمق و تنفيذهم ذلك على الرغم من الإنذارات والتهديدات الروسية المتتالية التي يبدو اول الأمر أن الغرب لم يأخذها مأخذ الجد، كشف فلاديمير بوتين عن بعض نماذج من ترسانته العسكرية كما أدى زيارة هامة إلى كازاخستان خلال هذا الاسبوع مصرحا ان هذا البلد صديق لروسيا وشريك يعتمد عليه.

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari

وتكتسي هذه الزيارة طابعا عسكريا اكثر من اي شيء آخر كما تخللها عرض لبعض من ترسانة موسكو العسكرية، و كذلك لما يعرفه الروس عن ترسانة الغرب بالتفصيل و بدقة متناهية و أماكن تركيزها وتحركاتها بالإضافة إلى مقارنة قدرات كل صاروخ بالستي فرنسي كان او ألماني او انكليزي او أمريكي بما يقابله من بالستي روسي… وأكد الرئيس الروسي ان مخزون بلاده من هذه الأنواع كاملة يفوق اكثر من عشر مرات ما تحويه ترسانة الغرب برمّتها، مما دفع الغربيين إلى وضعية جديدة من الاستنفار والاجتماعات المعلنة و السرية أيضا للناتو، هذا بالإضافة إلى ردود فعل حول تصريح فلاديمير بوتين الذي استشاط غضبا امام تحدي الغرب ووقاحته المتعمدة.

لقد ايقنت الدول الغربية اخيرا ان بوتين أنهى المزاح والتهديدات المحدودة ومر إلى قرارات وشيكة بالدخول في حرب للدفاع عن روسيا التي مثلت وتجسم اليوم إرث الاتحاد السوفياتي التي تم تدميره وها أن الناتو يرغب في الاجهاز على روسيا بدورها عبر استنزافها اقتصاديا واجتماعيا و عسكريا وفرض حرب بالوكالة من خلال “حصان اوكرانيا”. ويبدو أن الكريملين كان يفهم هذه المخططات ويحاول جاهدا الاستعداد لها جيدا باعتبارها محددة لمصير روسيا وصورتها التي ستثبت اما تأكيد قوتها و مكانتها الاستراتيجية او انحلالها وعلى الأقل اضعافها. ويتبين ذلك اعتمادا على مخطط حرب غربية واردة مع الصين التي تعتبرها الولايات المتحدة العدو الأكبر والأخطر على جميع الواجهات اقتصاديا خاصة وعسكريا أيضا. وكان لابد قبل ذلك من إزاحة روسيا من الطريق او القضاء على ترسانتها للتفرد بالغول الصيني.

فشلت الحرب الاقتصادية الغربية ضد الروس بل ان هؤلاء فرضوا وجودهم بالبلدان الافريقية ونجحوا في تخطي كل المعطلات لاقتصادهم و أسسوا تجمعا نقديا و اقتصاديا جديدا (البريكس) توسع وعلى بابه اليوم قائمة كبيرة من منتظري الانخراط. كل هذا بالإضافة إلى إبرام اتفاقيات تعاون عسكري مع إيران ودعم التقارب الوثيق مع كوريا الشمالية التي بادرت بإرسال اكثر من 10 آلاف جندي لمساعدة روسيا في حربها ضد اوكرانيا.

واذا رجعنا للحرب الروسية الاوكرانية التي دامت طويلا جراء الدعم غير المسبوق من الناتو لكييف، يستوجب الإشارة إلى ان روسيا لم تكن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي منشغلة بالحروب الميدانية التقليدية قدر ما ركّزت على تنمية الاقتصاد ورفاه السكان الذي كان متدهورا. أما الجانب الذي لقي الأكثر عناية فهو الأبحاث العسكرية و تعزيز القدرات النووية التي يرى الروس انها اهم رصيد دفاعي او هجومي… كما بلغ الجانب الاستخباراتي أيضا أوجه ويكفي التذكير بان اعدادا وافرة من الكوادر السامية والقيادات المؤثرة ثبت زرعها في مواطن القرارات والأبحاث و الاستخبارات وحتى التاثير على الانتخابات بالغرب، وخاصة بالولايات المتحدة الأمريكية…

بعد الانذار الاخير لبوتين استشعر الغربيون انهم لم يتركوا للدب المفترس اية فرصة غير الاستماتة في الدفاع عن عرينه. وفي هذه المرحلة الدقيقة التي تجسم قمة استعراض القوى بين غرب متخوف من عودة ساكن للبيت الأبيض لا يرغب كثيرا في إرهاق الخزينة الأمريكية لصالح الناتو او حرب اوكرانيا، وبين تهديدات تبدو جدية من ساكن آخر في الكريملين، نرى ان نتاج هذه الأوضاع ستكون حتما إما انهاء حرب اوكرانيا لصالح موسكو وربما يرفق ذلك بتنازل روسي طفيف عن جزء محدود من شرق اوكرانيا ووضع حد لكل التضييقات الاقتصادية الناتجة عن العقوبات المتتالية ضد روسيا، او التورط في حرب عالمية كان الجميع يستبعد وقوعها، اذا ما اختلط الغباء الغربي بالعقلية الكوباوية للرئيس الأمريكي القديم الجديد.

أكمل القراءة

صن نار