“الدّابل بايند”تونسيّا… أو تونس بلد الإكراهات المُضاعفة
نشرت
قبل سنتين
في
يروي لنا عالم النفس والاجتماع الأمريكي بول واتسلافيك هذه القصة الطريفة لتفسير مفهوم “الإكراه المُضاعف أو المزدوج” (double bind في الانكليزية و double contrainte في الفرنسية) :
أمّ تزور ابنها وتُهديه ربطتا عنق، واحدة زرقاء وأخرى حمراء. أثناء الزيارة الموالية، استقبلها الإبن مبتهجا وفي عنقه الربطة الحمراء، فقالت له والدته : يبدو أن الربطة الزرقاء لم تعجبك ؟ في الزيارة الثالثة اختار الربطة الزرقاء، فقالت له أمه : بطبيعة الحال هذا جليّ، لم تعجبك الربطة الحمراء ؟؟ وفي المرة الرابعة لم يكن بوسع هذا الشاب إلا أن يلبس الربطتين معا لإرضاء أمه التي ردّت مصدومة : “لا أستغرب أن أراك اليوم في مركز شبابي لغير المتوازنين نفسيا يا ولدي”.
فالإكراه المضاعف هو أن يصدر أمران متناقضان ولا يمكن الاستجابة للأول دون الإخلال بالثاني بما يجعل الشخص الذي يتلقّى هذه الأوامر أو التعليمات عاجزا عن الاختيار ويجعله كذلك عُرضة لارتباكات نفسية وذهنية تصل حدّ العزلة والانغلاق. حسب غريغوري بيتسون أول المشتغلين على آليّة “الإكراه المضاعف” في السنوات الخمسين من القرن الماضي، فإن وضع الأطفال على سبيل المثال في وضعيات اتصالية متكررة تؤثثها التعليمات المتناقضة يولّد لديهم بالضرورة سلوكات سكيزوفرينية. يقول بيتسون “إن الشخص المُعرّض للإكراه المزدوج تغمُرُه مشاعر عجز وخوف وحنق دون أن يُتاح للمحيط إمكانية تحويلها.”
السياق التونسي تُربة خصبة جدا لإنبات الإكراهات المضاعفة
اجتماعيّا :
المرأة عندما تعبّر عن تحررها وابتهاجها بالحياة كسائر خلق الله يقع وسمها بالخفّة والتهتّك والتبرّج وحتى بأبشع من ذلك، ولكن عندما تعبّر عن استقامة وصلابة في المواقف توسم بالتحجر والتخلف وجفاف المشاعر وإلغاء كافر بأنوثتها، وفي كل الحالات هي خاسرة ومطالَبة ببذل جهود مضاعفة لإقناع المجتمع بأنها مستقيمة في غير برود ومتحرّرة في غير “مُجون”.
الفتاة عندما تتعرف على شاب وتأخذ لنفسها حيّزا من الوقت للتعرف عليه، قد تتقدّم بها السنّ نسبيّا وتُضيع وقتا ثمينا لأنها لم تُعجّل بزفافها، ولكنها عندما تستعجل الأمر قد تكتشف أبعادا لا يمكنها معها الاستمرار في العلاقة. بمعنى ان التجربة مهمة في ضمان ديمومة العلاقة لكنها مُكلفة اجتماعيا خاصة عندما تبوء بالفشل، ولكن انعدام التجربة يورط الفتاة بصورة خاصة (أكثر من الشباب الذكور) في علاقة ثنائية خاسرة بالنظر إلى مزاج الآخر واشتراطاته وعُقده وعلاقته بأمه ونظرته نحو المرأة عموما…
مدرسيّا :
يُطلب من المربين أن يكونوا مُجدّدين ومُبدعين ومُبادرين ولكن قد تقع مساءلتهم لكونهم اجتهدوا أكثر من اللازم، ولكن عندما يتقيّدون بما يُطلب منهم رسميا لا أكثر يوسمون بالجمود والتحجر وتقديس مضمون “الكراسات الصفراء”، ففي كل الحالات هم محجوجون ومغضوب عليهم.
في التوجيه الجامعي، يُقال للتلميذ الناجح في الباكالوريا إنه يتوجّب عليه بألاّ يكتفي بعدد قليل من الاختيارات التي يراها ملائمة أكثر من غيرها لمزاجه وميولاته وطبيعة مؤهلاته لأنه قد لا يتحصل على أي واحد منها ويظل مؤجلا إلى الدورات اللاحقة، ولكنه يتردد كثيرا قبل تعمير اختيارات إضافية (لا يرضاها لنفسه مهما حصل) لأنه قد يُقصى من الأولى ولا يبقى أمامه سوى القبول بالأمر الواقع : وضعية فيها شدّ عصبي وعاطفي كبير جدا متبوع بحيرة مزعجة وألم نفسي لا يوصف.
يُطلب من التلميذ أحيانا أن يكون تلقائيا في سلوكه، فإذا استجاب فذلك يعني أنه خضع (لاتلقائيا) للأمر الذي وُجّه له بما ينزع عن سلوكاته أي طابع تلقائي، أو عندما يُطلب منه أن يقول الحقيقة حول حدث ما بالمؤسسة أو داخل القسم، فلو قالها عُوقب وإن لم يقلها عُوقب أيضا.
في مؤسسات التعليم العالي إلى حدّ وقت غير بعيد، يُطلب من الطالب أن يستحضر شهادة تثبت الإعفاء من الخدمة العسكرية ولكن لكي يُعفى من أداء الواجب العسكري مؤقتا عليه الاستظهار بشهادة ترسيم في التعليم العالي. وهو إشكال سكيزوفريني كان يكفي اتصال هاتفي بسيط بين ديواني الوزارتين لتجاوزه وإعفاء آلاف الطلبة من تبعاته السلبية على أعصابهم ومبيتهم ومعيشهم ودراستهم.
إداريّا :
العسكري الذي يرغب في عدم خوض عمليات حربية محفوفة بالمخاطر، يُطالَب بأن يُقدّم مطلبا مُعلّلا يقول فيه إنه يعاني من اختلالات عقلية كبيرة تصل حدّ عدم القدرة على التمييز بين الصديق والعدوّ، ولكن مجرد التعبير عن القدرة في تكوين هذا الملف هو دليل على كونه يتمتع بملكات عقلية عادية تجعل منه جنديا قادرا تماما على خوض غمار الحرب والتمييز بين جيشه وجيش الأعداء. (كما في الشريط السينمائي Catch22 لمايك نيكولس الذي يروي قصّة الطيّار يوسّاريان خلال الحرب العالمية الثانية محاولا إقناع قيادته بأنه مجنون…دون جدوى).
يُقال للموظف إن عليه أن يجتهد ويُثابر ويُبادر لينال الترقيات التي هو جدير بها، ولكنه لا ينال شيئا في النهاية لأن الترقيات تُسند بناء على مقاييس أخرى لا علاقة لها بالعمل والجهد… وعند اكتفائه بـــ”عشرة الحاكم” أي المجهود الأدنى، يُنظر إليه بنوع من الازدراء وعدم الاعتبار لأنه لا يضيف شيئا ولا يساهم في تطوير المرفق الذي يعمل صلبه. ففي كل الحالات هو مقهور ومقبور ومكسور.
سياسيّا :
تعترض على سبيل المثال على مسار 25 جويلية المتعثّر والذي لم يقدر إلى حد هذه اللحظة على بناء شيء مرئي يراه التونسيون ويلمسونه، ولكن المساهمة في الإطاحة بهذا المسار يُعيد (أو على الأقل يفسح المجال أمام قوى العهد السابق) المشهد القديم الذي سئمه الناس في ظل اكتوائهم بويلاته وعبثه وجرائمه… ففي كلا الحالتين، نظل واضعين أيدينا على قلوبنا خشية عودتهم من ناحية وخوفا من مآلات حزينة لا نتوقّعها ولا نطمئن كثيرا لعدم وقوعها. هذا لوحده “حالة مدرسية” جديرة بأن تُدرّس لدى ورثة “مدرسة بالو ألتو بكاليفورنيا” كتيّار فكري اشتغل كثيرا على “الإكراه المُضاعف” في سياق نظريات الاتصال والعلاقات بين الأفراد والاضطرابات النفسية.
النظام السياسي “في سياق ديمقراطي” لا يمكن أن يقمع الناس بشكل فجّ، ولا يمكن أن يسمح بالتحركات الاجتماعية ويطلق لها العِنان في نفس الوقت لأنها مشروعة ويعرف جيدا أنها مشروعة، ففي الحالتين، هو نظام مهزوم في عيون الناس لأنه أكثر عجزا من أن يمارس قمعا سافرا وأوهن من أن يجترح حلولا وتصورات وسياسات تنهض بمعيش العِباد ومكانة البلاد.
في سياقات مثل التي نحن فيها اليوم، تحمّل مسؤوليات عليا في مؤسسات الدولة قد يجعلك تساهم بشكل ما في تطوير بعض الجوانب الحيوية في حياة الناس، ولكن مثل هذه المهام قد تؤدي بك إلى مهالك لا تتوقّعها لمجرد إمضاء وثيقة إدارية لا تعلم ما الذي تُخفيه أو لمجرّد الاشتباه في “كونك جنيت فوائد لنفسك…”، فيفرّ الجميع وتنكمش الكفاءات الحقيقية ولا يبقى سوى الليّنين والطيّعين والآكلين على جميع الموائد والنائمين على كل الوسائد.
وأخيرا ريفيّا :
لا يمكنني أن أُنهي هذه الورقة التي حاولَتْ التعريف بالدّابل بايند بدون استحضار تلك الطّرفة الريفية الرائجة في دواخلنا التونسية والتي تقول إن جمعا من المزارعين أمسكوا يوما بذئب جائع يترصّد قطيعا من الأغنام، فوضعوه أمام اختبار مفخّخ وتعجيزي… وهو الحيوان الذكي الذي يتصف بدهاء ومكر خرافيين : قالوا له، أنظر جيدا إلى السماء وقيّم لنا مدى اكتناز الغيوم بالأمطار، فلو أمطرت قتلناك ولو أمسكَتْ قضينا عليك (بتصرف) ! فكّر الذئب مليّا وأجاب “والله مضيرطة” ! أيْ لاهي سماء واعدة ولاهي مُمسكة.