جور نار

الدّنيا مع الواقف

نشرت

في

وضع هاتفه الجوّال على الطاولة ..طلب قهوة و أخذ يتصفح جريدة و يسترق النظر إلى الهاتف من حين إلى آخر علّه يرنّ أو تضيء شاشته لتلقّي رسالة …

للأسبوع الثاني على التوالي يصمت هاتفه إلا من بعض المكالمات الروتينية من الزوجة و الأبناء

<strong>عبير عميش<strong>

لم يكن هاتفه الجوّال أو هاتف المكتب يتوقفان عن الرنين … بالكاد يلتقط أنفاسه بين  المكالمة و المكالمة ..

منذ أن غادر الوزارة سكت هاتفه عن الرّنين المباح ..

 أ لهذه الدّرجة نسيه الجميع ؟ أ لهذه الدّرجة أخرجه التقاعد من دائرة الاهتمام ؟

أين من كانوا يتودّدون إليه و يتسابقون حتى لإلقاء التّحيّة ؟ أين الاتصالات و الطلبات و الاستشارات … ؟

في أقلّ من أسبوع تغافل عنه الجميع و دخل طيّ النسيان و أُودع  داخل علب الأرشيف ..

كثيرا ما سمع سابقا عبارة “الدّنيا مع الواقف” و استعملها كذلك و لكن هاهو اليوم يكتوي بنارها أيضا ..

فعلا الدّنيا مع الواقف… هذا هو الوضع في بلادنا .. كلّ من يفارق المنصب والسلطة يُنسى كأن لم يكن ..

و تكفي نظرة بسيطة على مواقع التّواصل الاجتماعي لتنكشف لنا شخصيّة التونسي الانتهازيّة المتنكّرة للآخر

أين من كانوا يجرون في ركاب الشاهد و يلهجون باسمه ؟

أين من استعدوه ليظفروا بنظرة و بسمة من حافظ ابن أبيه ؟

أين من كانوا يدينون بالولاء للمشيشي و يدافعون عنه ؟

أين من تمعّشوا من نظام بن علي و لهجوا بأسماء وزرائه ؟

أين من كانوا يسبحون باسم الطرابلسيّة و يلعقون الأرض التي يمشون عليها ؟

بل أين من طبّلوا لبورقيبة و تغنّوا بسيد الأسياد حبيبهم الغالي ؟

أين ذهب كلّ هؤلاء ؟ هل اهتموا بمن غادروا ؟ هل التفتوا إليهم ؟ هل ساندوهم في محنهم و ما تعرّضوا له من قيود و اتهامات وإيقافات و محاكمات ؟  أ لم “يقلبوا الفيستة و يمشيوا مع الواقف ؟”

و لعلّ آخر من تنكّر لها المطبّلون المبندرون لاعقو الأحذية  هي مستشارة الرئيس و مديرة الديوان الرئاسي سابقا نادية عكاشة

فانظروا إلى أولئك الذين كانوا يساندونها و يمدحونها و يصورونها للتوانسة على أنها المرأة الحديدية في القصر و مارغرت تاتشر الجديدة ، كيف انقلبوا عليها صاروا يتحدّثون عنها اليوم (بعد تدوينتها الأخيرة) و إلى أي مستوى نزلوا بالثلب و القدح و الذّم و التّسريبات؟ و كيف قفزوا من سفينتها بمجرّد  مغادرتها للمنصب مثلما سيقفزون من سفينة الرئيس تباعا إن واصل على نفس النهج و المنوال ، من إهمال للشأن الاقتصادي و الاجتماعي و استعداء للجميع ..

رئيس لم يعد في الفترة الأخيرة  يجتمع إلا بالأمنيين و أفراد الجيش و لا يهتم إلا بهم و لا يتوجه إلا إليهم و كأنهم المواطنون الوحيدون في البلاد أو كأنّ المواطنين درجات و هم أعلاها …

رئيس يختار ليلة القدر … ليلة الرحمة و التّراحم ليتوجه بخطاب يستعدي فيه جزءا كبيرا من الشعب و ممثليه … رئيس يفرّق و لا يجمّع ..  رئيس يخوّن  معارضيه و يجرّمهم …  رئيس كم وددت لو أنّه استمع إلى خطاب النّصر الذي وجهه ماكرون (الذي قبل ذات يوم كتفيه) للمحتفلين معه عندما أكّد أنّه رئيس كل الفرنسيين من انتخبه و من لم ينتخبه … و هو المسار الذي يرفض رئيسنا أن يسير فيه – رئيسنا نقولها هنا احتراما للدّولة و مؤسساتها لأنّه يؤكّد في كل مرّة أنه رئيس أنصاره فحسب – و ما لاءاته الثلاث التي رفعها في وجه الجميع في خطاب ليلة القدر إلا تأكيد على ذلك … و قد نسي و نسي معه من بقي من أنصار و مساندين إقصائيين استئصاليين  أنّ الوطن للجميع و أنّه لا يمكن أن يعيش فيه المواطنون دون الحفاظ على  حدّ أدنى من التّعايش و دون احترام قواعد العيش المشترك … فحتى سنة 2013  و بعد الاغتيالات و العمليات الإرهابية و استحواذ حركة النّهضة على الحكم جلس الجميع جنبا إلى جنب بيمينهم و يسارهم و حتى بمن كانوا يُسَمّون حينها بالأزلام ليتحاوروا حول مستقبل البلاد و ليضمنوا سيرا عاديّا لدواليب الدّولة  حرصا منهم على السّلم الاجتماعيّة  …

أما اليوم فرئيسنا يسير بمفرده في اتجاه تأسيس بنائه الجديد  و فرض خياراته الذّاتيّة دون أن يأبه لآراء المواطنين و انتظاراتهم الحقيقيّة (بعيدا عن الاستشارة التي قاطعها الجميع) و دون أن يلتفت إلى الملفات الاقتصاديّة الشائكة و لا إلى الأوضاع الاجتماعية التي تتدهور يوما بعد يوم …

رئيسنا يضيع وقته و جهده في الرّد على خصومه و البحث عن أخطائهم و توعّدهم بالويل و الثبور و لا يولي اهتمامه إلا إلى تثبيت أركان حكمه فتتوالى المراسيم المغيّرة للهيئات و المقوّضة للمؤسّسات القائمة  و يهمل التأكيد على قيم العمل و الإنتاج و الازدهار و خلق الثروة و يريد بناء نظام جديد  لم يأت به السّابقون و لا اللاّحقون يهدم ما سبق و يقوم على أنقاضه ..

فليته يدرك أن البناء لا يكون إلا جماعيّا و التأسيس لا يكون إلا تشاركيّا و أنّ الطريق الذي يسير فيه لن يساهم إلا  في مزيد تأزيم الأوضاع و توتيرها خاصّة مع ضعف الطاقم المحيط به و أخطاء الكاستينغ التي تكرّرت لديه في اختيار المستشارين و الوزراء و حتّى الولاة …

و ليته  لا يصدّق  كثيرا تطبيل بعض المصفقين ممّن حوله و المعلّقين  في صفحة الرئاسة ممن يرددون عبارات “الشعب معاك يا قيسون” و”ارحي يا معلّم”  و ألا ينتشي بهذه التعاليق  المغمّسة في “الفارينة” إذ لطالما سمع من سبقوه عبارات شبيهة بها … فسيختفي الجميع  و ينقلبون عنه بمجرّد أن يغادر المنصب و سيلعقون حذاء من سيخلفه على كرسي  قرطاج استنادا إلى مقولة  “الدّنيا مع الواقف” و”الله ينصر من صبح” .

تعليق واحد

صن نار

Exit mobile version