جلـ ... منار

“الرادار” و القطيع

نشرت

في

فشلت الأديان في أن تكون حدودا أخلاقية، على عكس ما زعمت.لأنها فشلت في أن تعرّف الأخلاق! إذ لا تستطيع أن تكون حدّا لشيء، مالم تعرّفه أولا.

<strong>وفاء سلطان<strong>

خلطت الأديان كلها بين الأخلاق وبين العادات والتقاليد التي كانت سائدة يومها.العادات والتقاليد تتغير من حقبة إلى أخرى،ومن مكان إلى مكان،بينما الأخلاق هي شيفرة صالحة لكل زمان ومكان! الأخلاق ـ في أبسط تعريف لها ـ هي الحدود التي عندما نتجاوزها نُؤذي الحياة كقيمة، بل كأقدس القيم!

البلدان الإسكندينافية سجلت أقل معدّل للجرائم في العالم، وأعلى معدّل للشعور بالسعادة.في الوقت نفسه، فازت بأعلى معدّل للإلحاد! كيف يتزامن هذا مع ذاك؟ ماسرّ العلاقة بين هذا وذاك؟عندما غاب الدين من ساحة الوعي واللاوعي، عاد “الرادار” المغروس كونيّا في عمق النفس البشرية، عاد إلى نشاطه الطبيعي، ليستأنف عمله،بعد حالة تعطيل كليّ سببتها الأديان، عندما زعمت أنها تقوم بدوره!

عندما استعاد عافيته، راح هذا “الرادار” يلتقط كل عمل يؤذي الحياةَ، ويكبحه! انخفض عندها معدّل الجرائم وازداد الإنسان سعادة،أليست السعادة أن تسلك في الحياة دون أن تؤذي؟ كلما استخدمتَ ذلك الرادار كلما شحذتَ قوته، وساهمت في تفعيل نشاطه.وكلما سرت وراء القطيع معصوب البصيرة، خبا الضوء الذي يشع من عمقك، وتشوّش رادارك!…

لا شيء يرعبني أكثر من أن يُفرض عليّ التعامل مع شخص يضع كل مصداقيته في تديّنه! إذ لم أخرج مرّة واحدة من تجربة كهذه، إلا وأكدت لي أن تديّنه قد شوّش راداره! تحت مظلة القطيع قد تفعل أي شرًّ، طالما المسؤولية جماعية وليست فردّية. القطيع سرق، فسرقتَ…القطيع زنى، فزنيتَ…القطيع حارب، فحاربتَ…القطيع ضد فلان، لذلك أخذتَ موقفا ضده…القطيع مع فلان، لذلك صفقتَ له…ولو حاسبك أحد ستحتج بقولك: لماذا ستحاسبني والكل فعلها؟

لا شك أن الفرد يرتكب جريمة، لكن أبشع الجرائم تلك التي يباركها الانتماء! والدين، بلا شك، هو أقوى الانتماءات، وأكثرها قدرة على تعطيل “الرادار” الطبيعي لدى الفرد! بينما عندما تنشق عن القطيع، وتتقمص ذاتك الحقيقية، يصبح “رادارك” حساسا جدا، ويلتقط كل خطوة تخطوها، حتى ولو كانت الرحلة مليون ميلا…تصبح مستيقظا، وتعرف في كل لحظة أين هي قدمك، ولماذا تبوأتْ ذلك الموقع في تلك اللحظة! تمشي إلى الأمام إن كنت راضيا، وتتراجع على الفور عندما تشكّ في نبل الموقف! تتحمّل مسؤولياتك بجدارة، ولا تلقي باللوم على أحد..

عمري ستون عاما، عندما أتصفّح كتاب حياتي، وأمرّ فوق أحداثها حدثا حدثا، لا يوجد شخص واحد، شخص واحدفي حياتي استطيع أن ألومه على شيء.أحمّل نفسي دون غيرها مسؤولية أخطائي وفشلي…وأطبطب على كتفي عندما أحقق نجاحاتي، دون أن أنسى أن الكثيرين قد ساعدوني لأحققها.نعم، أحاسب نفسي ـ دون غيرها ـ عندما أُخطئ وعندما أفشل، وأشكرها وأشكر غيري عندما أنجح….

يقول عالم الفيزياء الأمريكي الحاصل على جائزة نوبل،’ستيفن وينبرغ”Religion is an insult to human dignity For good people to do evil things, that takes religion “الدين يهين الكرامة الإنسانية، لكي تقنع شخصا جيدا أن يفعل شرا تحتاج إلى دين” إنها سطوة العقل الجمعي الذي يستعبدك من خلال الدين!..

تحدثت مع شخص كان القاضي الشرعي لجبهة النصرة، وارهابيا لسنوات.تحدثت معه في أكثر من مناسبة، ولساعات…غصت في أعماقه وبمهارة، وطرحت عليه اسئلة دقيقة جدا، وحصلت منه على أجوبة دقيقة جدا. رغم أنه كومة من مشاكل نفسية وعاطفية وعقلية، ويتلقى علاجا على كل هذه الأصعدة في ألمانيا،بعد أن تحرر من أغلال داعش، وفر إليها هاربا،

رغم ذلك استطعت أن أتبين ـ طبعا بصعوبة ـ شبح ضميره الفردي يتخبط وسط هذا الظلام الحالك الذي عاشه لسنوات.شعرت كيف كان يتأرجح بين الضمير الجمعي لجبهة النصرة وبين ضميره الفردي، خلال الأحداث التي عاشها.ولاحظت أيضا، كيف تناسبت وحشية أفعاله طردا مع الدرجة التي خضع عندها لسيطرة الضمير الجمعي!

أخيرا، وبعد صراع مرير بين الضميرين،تفرّد بضميره وهرب…

ليس حقك أن تعيش فرديتك وحسب، بل هو واجبك المقدس! من واجبك أن تهتدي بالضوء الذي يشع من عمقك، إذ أنه الدين الوحيد الذي يخصّك! هو كل مايربطك بالمنبع، ولا شيء غيره يستطيع أن يقودك باتجاه ذلك المنبع.من واجبك أن تسكن جلدك، وأن لا تعيش حياتك متقمصا غيرك، فمقاس غيرك لا يناسب مقاسك!…

عندما سأغادر هذا العالم، وعلى بوابة العالم الآخر، سأنتشي فرحا، لأنني أديت المهمة التي جئت من أجلها، ولقد كنت خلالها نفسي….لم أسمح لدين أو لأحد أن يتحكم بقراراتي…لم أتمكيج…لم أتقنّع…ولم ألبس يوما قميصا مستعارا!

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version