سرديار

الراهب المسحور

نشرت

في

<strong>ميخائيل نعيمة<strong>

في جبال الآس و اللبان، على القمة الشاهقة المعروفة بـ “قمة المذبح”، ما تزال بقايا هيكل مهجور، متهدّم، يدعى “الفُلك”. أما تاريخه فقد غاب في لجج سحيقة من القِدم تنتهي، في عرف التقاليد، إلى الطوفان.

كثيرة هي الأساطير التي حاكتها الأيام حول الفلك. لكنما الأسطورة الأكثر رواجا هي التي سمعتها مرارا من أفواه القاطنين في سفح قمة المذبح حيث أتيح لي ذات سنة أن أُمضي صيفا بكامله، و ها أنا أرويها كما سمعتها:

من بعد الطوفان العظيم بسنين عديدة، انتهى التجوال بنوح و ذرّيته إلى جبال الآس و اللبان حيث المياه غزيرة و عذبة، و التربة نشيطة و خصبة، و المناخ معتدل و طيّب، فقرّ رأيهم على الإقامة هناك.

و عندما شعر نوح بدنوّ أجله دعا إليه ابنه سامًا. و كان سام رجل أحلام و رؤى كوالده، و خاطب نوح سامًا هكذا:

“”إن ما حصده والدك من السنين حتى الآن كان من الوفرة على جانب عظيم يا بنيّ. و ها هي القبضة الأخيرة من سنابله في انتظار المنجل. أما أنت و أخواك و بنوكم و بنو بنيكم فستجدّدون حياة الأرض الثكلى، و سيكون نسلكم كعدد رمإ البحر حسبما وعدني الله.

“”إلا أنّ خوفا يساور ما تبقّى في عينيّ من نور و يكاد يطفئه قبل أوانه. و ذلك أن الناس على مرّ العصور سينسون الطوفان و جميع الشرور و المخازي التي جلبته على الأرض. مثلما سينسون الفلك و الإيمان الذي حملها بسلام مائة و خمسين يوما و مكّنها من الغلبة على اللجّة الصاخبة. كذلك لن يذكر الناس الحياة الجديدة التي انبثقت من ذلك الإيمان فكانوا بعض أثمارها.

“”لذلك آمرك يا بنيّ أن تبني مذبحًا على أعلى قمة من هذا الجبل. و تلك القمّة تدعى من بعد ذلك (قمة المذبح). ثم أن تبني حول المذبح هيكلا يشبه الفلك في كل تفاصيله و إنما يكون أصغر منها حجما بكثير. و أن يُعرف الهيكل باسم الفُلك.

“”على ذلك المذبح أريد أن أقدّم إلى الربّ ذبيحة شكراني الأخيرة. و النار التي سأوقدها هناك أريد أن تبقى حيّة إلى الأبد.

“”أما الهيكل فعليك أن تجعل منه ملجاً لجماعة من رجال مختارين لا يزيد عددهم أبدًا عن التسعة و لا ينقص عنها و هؤلاء سيُعرفون باسم (رفاق الفلك). و عندما يتوفّى الله واحدًا منهم يرسل من قِبَله آخر ليحل محله. و على الرفاق ألاّ يخرجوا من الملجإ بل أن يلازموه كل أيامهم ممارسين من التقشّف حياةً كالتي مارسناها في الفلك، و محافظين على نار الإيمان من الانطفاء، و منعكفين على الصلاة للعليّ من أجل هدايتهم و هداية إخوانهم الناس. و عليهم ألاّ يهتمّوا بحاجاتهم الجسدية، فهذه ستبذل لهم من عطف المؤمنين و إحسانهم.””

جبل مرداد

و كان سام يصغي إلى كل حرف من كلمات أبيه و يقتبلها بلهفة الجائع. إلا أنه قطع عليه كلامه ليعرف منه القصد من تحديد عدد رفاق الفلك بالتسعة ـ لا أكثر و لا أقلّ. فأجابه الشيخ المثقل بالسنين:

“ذلك يا بنيّ هو عدد الذين ركبوا الفلك.”

لكنّ سامًا كان يعرف أن الذين ركبوا الفلك ما زادوا يومًا عن الثمانية، و هؤلاء الثمانية هم أبوه و أمّه و أخواه و زوجاهما و هو و زوجه. لذلك وقع في حيرة كبيرة من كلام أبيه. و أدرك نوح حيرة ابنه سام فقال له مفسّرا ما أبهم عليه:

“ها أنا يا ابني أبوح لك بسرّ عظيم…

ـ يتبع ـ

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version