هل تعلم أننا قوم مرضى بداء الحنين إلى ماضينا ولو كان زفتا وقطرانا؟ بل يصحّ فينا ما جاء في أغنية “باصرة” لصباح حين تقول (تمشي تمشي بالمقلوب من البرج للناصرة) … أي وأيم الحق … وقت بورقيبة، فينا من أسف على فرنسا التي على الأقل سمحت للزعيم ورفقائه بتأسيس حزب وجرائد معارضة … في حين لما أمسك زعيمنا الحكم بادر بإغلاق معظم الصحف وحظر أي نشاط خارج حزبه الحاكم …
زمن بن علي، هناك فينا من تحسر على أيام الزعيم … طبعا هؤلاء كان عددهم صفرا في السر والعلن معا … ولكنهم صاروا أمما جرارة بعد زوال عهد ليه يا بنفسج … وقد سمعناهم ورأيناهم طويلا في السنوات الأولى بعد 2011، وفيهم من قال بكل حصافة إن الثائرين على بن علي هم من حمَلة الفكر البورقيبي … وفيهم من زاد على ذلك وقال إن أحداث 2011 قادها المجاهد الأكبر من قبره … ولم ينقصنا سوى من يروي لنا أن سي الحبيب زاره في المنام وأوصاه … وراحت ألسنة وأقلام تمجّد العهد البعيد السعيد، برئيسه ورؤساء حكوماته ووزرائه طرّا، بمن فيهم الراحل محمد الصياح الذي فجأة صيّروه رسول سلام ومحبة …
بعد ذلك انقلب ظهر المجنّ … وها كثيرون يتغبّنون على مرحلة زين العرب كما كان يشدو ياسر عرفات كلما وقف خارجا من قصر قرطاج أمام عدسات قناة 7 … اليوم صرنا نتذكر أنه قبل 2011 كانت هناك على الأقل دولة … تضربك ولكن تضرب عليك كما يقال … وكان هناك قضاء إداري في مجمله تهابه الوزارات وتخضع لقراراته بأمر رئاسي … وكانت هناك منظومة أمنية وأمن دولة وحراسة حدود، وكانت هناك ميزانية ومخططات خماسية للتنمية ووزراء ومستشارون من خيرة من أنجبت الجامعات … وكان هناك كبت للإعلام ولأصوات المعارضة صحيح، ولكن لم تقع اغتيالات سياسية ولم يتم تنظيم رحلات تسفير إلى بؤر الموت ولم بشرّع أي وزير شؤون دينية لجهاد النكاح …
للراحلين سلاما ورحمة … نذكرهم بالخير رغم أنهم لم يكونوا ملائكة … محمد الصياح أخطأ كثيرا في حقنا حين أطلق ميليشياته لتكسر وتقتل ذات 26 جانفي، وقبل ذلك زرع تجار الدين في البلاد وجامعاتها ومدارسها … ولكننا لا ننسى أنه كان وراء عدد من الأشغال الكبرى وهو وزير للتجهيز… أحدها (سد سيدي سالم) هاهو الآن يروي نصف الجمهورية وصرنا نقيس مؤمّل حياتنا بنسبة امتلائه بعد كل مطرة … بن علي أطلق أنسباءه ينهبون ويفسدون في عشرية حكمه الأخيرة، ولكنه أنشأ 700 كيلومتر من الطرقات السيارة، وثلاثة مطارات دولية، وخمس إذاعات على الأقل، ومركزا للحروق البليغة مع عدد آخر من المستشفيات الكبرى وصندوق للتأمين على المرض يخدم اليوم ملايين التونسيين …
ويتقدم بنا التاريخ إلى الوراء بعد ذهاب جماعة العهد البائد … إذ تولى حكمنا بعد 2011 معارضو البائد الأول والبائد الثاني فماذا حصل؟ البنية التحتية صارت “تحتية” بحق بل صارت تحت التحت … مشروع قطار الزهروني تعطل أكثر من عشر سنوات … مشروع مترو صفاقس دخل في أضغاث الأحلام … ملعب المنزه (مفخرة حكم بورقيبة) تحوّل إلى حطام … ملعب رادس (متاع الزين) يشتغل يوما ويغلق عشرة وكادوا يبيعونه … المستشفيات صارت مقابر وأصبح وزير صحة 2011 مختصا في تدشين المصحات الخاصة وإحداها على ملكه كما يشاع … في المركز العمراني الشمالي وحده صارت بين كل مصحة ومصحة، مصحة فاخرة تسلخك قبل أن تشق لك … ولا حديث عن التعليم ولا عن الثقافة ولا عن التجارة التي صارت وزاراتها عبئا على الدولة والمجتمع … وتنتظر قرار إزالة أو رصاصة رحمة …
يخيّل إليك أحيانا أن الروزنامة التونسية مكتوبة بطريقة المؤرخين للزمن القرطاجي أو الروماني أو الإغريقي أو الفرعوني أو البابلي … يعني نحن الآن نعيش في سنة 2023 قبل الميلاد لابعده …