جور نار

الشعب يريد حلولا حقيقيّة

نشرت

في

يحكى أنّه كان هناك رجل حكيم يأتيه الناس من كلّ مكان لاستشارته. لكنهم كانوا في كلّ مرّة يحدّثونه عن نفس المشاكل والمصاعب التي تواجههم، حتى سئم منهم.

<strong>عبير عميش<strong>

وفي يوم من الأيام، جمعهم الرجل الحكيم وقصّ عليهم نكتة طريفة، فانفجر الجميع ضاحكين. بعد بضع دقائق، قصّ عليهم النكتة ذاتها مرّة أخرى، فابتسم عدد قليل منهم. ثمّ ما لبث أن قصّ الطرفة مرّة ثالثة، فلم يضحك أحد. عندها ابتسم الحكيم وقال: “لا يمكنكم أن تضحكوا على النكتة نفسها أكثر من مرّة، فلماذا تستمرون بالتذمر والبكاء على نفس المشاكل في كلّ مرة؟!”

كلما قرأت البلاغات الرئاسية أو سمعت خطابات الرئيس، تبادرت إلى ذهني هذه الحكاية ، فتكرار بعض المواضيع أحيانا يفقدها قيمتها  و من ذلك الحديث عن الاحتكار و المؤامرات.

ففي المرة الأولى التي أعلنت فيها الرئاسة عن محاولة لاغتيال رئيس الجمهوريّة استنكر الجميع هذا الفعل وتعاطف معه المعارضون و المساندون و وصلته اتصالات هاتفية من قادة عدد من البلدان و اهتز الكثيرون لخبر بهذه الخطورة .. و لكن في المرات التي تلت ذلك لم يحصل ذلك التعاطف العالمي و لم يستقبل المواطنون الخبر بنفس الدرجة من الدهشة و الانزعاج السابقين.. بل صار الأمر مدعاة للسخرية و التندر حين تكرر صدوره عن رأس السلطة خاصة أنه يؤكد في كل مرّة أنه يعرف الفاعل و يقول بأنه يتجول تحت حماية أمنية و لكن رغم ذلك لا تلاحقه السلطات و لا تحاسبه العدالة !!

نفس الشيء يتكرر عند حديثه عن الاحتكار و تطهير البلاد ممن يجوّعون الناس ..

فلئن كنا لا ننكر نواياه الطّيبة و بحثه عن راحة المواطن و تحقيق رفاهه فإن النوايا الطيبة وحدها لا تكفي .. والحلول المقدّمة لا تبدو متناسقة مع نوع المشاكل فالأمر صار شبيها بأن يقدّم طبيب مسكنات لعلاج المعدة لمريض يشكو من ألم في قلبه  أو من عرج في رجليه  …

الدولة صارت منذ 25 جويلية  تدار بعقلية بوليسية ترجع كل النقائص و المشاكل إلى المؤامرات و إلى الرغبة في تقويض أركان السلطة  فحتّى المشاكل الاقتصاديّة لا يتحدّث عنها الرئيس مع وزراء الماليّة أو التجارة أو الاستثمار إلا لماما  في حين يتكرّر الحديث فيها مع وزيري الدّاخلية السابق و الحالي ..

إن التنكيل بالمعارضين و توجيه التهم نحوهم و اعتبارهم متآمرين خونة  من أعداء الوطن و اتهامهم بأنهم وراء فقدان كل المواد و اختفائها من الأسواق، هو من بين المسكّنات التي يمكن تقديمها للشعب فيلهو بها أسبوعا أو اثنين و ينتشي  بها مدة قصيرة … لكنه لن يملأ قفّته شماتة و لن يدفع فواتيره تشفّيا، فهو سيدرك إن آجلا أو عاجلا أنّ الزّجّ بهم في السجن و محاولات إذلالهم أو ترهيبهم و ترهيب غيرهم، ليست هي التي ستوفّر له الرخاء المنشود.. فها أن قرابة الشهر قد مرّت على اعتقال هؤلاء المعارضين دون أن تعود المواد المفقودة إلى الأسواق و مازلنا نرى إلى اليوم طوابير السكر و القهوة و مازلنا نبحث عن الحليب والفارينة و غيرها ..

و مازالت البلاغات الرئاسية تتحدث عن احتكار و عن مسالك تجويع و عن ضرورة تطهير البلاد من الفاسدين المتحكمين فيها رغم أن هذه المواد خاضعة في أغلبها لإشراف الدولة في توريدها و تسويقها… فالمقاربة التي ينطلق منها الرئيس و محيطه هي دوما مقاربة أمنية يحاولون من خلالها إخفاء حقيقة هامة عن الشعب، و هي ضعف موارد الدولة و عجزها عن توريد المواد بالعملة الصعبة في الآجال اللازمة و بالكميات الكافية .. ففي قانون السّوق، الوفرة وحدها كفيلة بمحاربة الاحتكار.  و مصارحة الشّعب بواقع الماليّة العموميّة و بخاصّيات الأزمة التي تعيشها البلاد، وحدها كفيلة ببناء جسور الثقة بين الحكومة و الشّعب … فمن المزعج حقّا أن نتتبّع أخبار بلادنا من بلاغات قادة الدّول الأجنبيّة و من بيانات الاتحاد الأوروبي أو المنظمات الدّوليّة ..

ففي الوقت الذي نحتفل فيه بالذّكرى السّابعة و السّتين لعيد الاستقلال و  نتحدّث فيه عن السّيادة الوطنيّة و عن رفض تدخّل الآخرين في شؤوننا، صارت تونس محلّ نقاشات بين قادة العالم و هياكله الدّوليّة … فيحذّر وزير الخارجيّة الأمريكي من انهيار الاقتصاد التونسي و تدعو رئيسة الوزراء الإيطاليّة جورجيا ميلوني  أوروبا  لإعانة تونس في أزمتها … أمّا  فرنسا فعبّرت بالأمس عن استعدادها لتغطية الفجوة الموجودة في ميزانيّة تونس حسب تصريح سفيرها لدينا أندريه باران …  و هذه الدّعوات تتنزّل في إطار دفاعهم على مصالحهم الخاصّة و خشية على بلدانهم  من تفاقم أعداد المهاجرين،  كما أنّها  ليست مساعدات مجّانية طبعا بل هي نظير التزام تونس بالاستجابة للشروط التي تفرضها هذه البلدان ..

و للخروج من هذا المأزق يتعيّن على السّلطة اليوم أن تفكّر بطريقة مغايرة وأن تتوجّه إلى المواطنين بخطاب عقلانيّ واضح بعيدا عن لغة التّهديد و التّخوين، و أن تبحث عن حلول حقيقية لأزمة تونس … فالمقاربة الأمنيّة المعتمدة منذ 25 جويلية 2021  و التي انطلقت بمداهمة مصنع الحديد و مخازن البطاطا والمواد الغذائيّة، أثبتت عجزها … و محاولة استرجاع الأموال المنهوبة  في الخارج باتت نكتة سمجة لم يعد أحد قادر على تصديقها، و فكرة الصّلح الجزائي  تجلّت محدوديّتها إلى درجة دفعت الرّئيس إلى إقالة  القاضي حاتم بن منا رئيس اللجنة …  و تلهية المواطنين بأخبار التّحقيقات و الإيقافات لا يمكن أن تستمرّ طويلا وصبرهم على تدهور قدرتهم الشرائيّة لا يمكن أن يتواصل إلى ما لا نهاية، و الوضع الاجتماعي و الاقتصادي مهدّدان بالانفجار في أيّ لحظة  …

إنّ الشعب يريد حلولا حقيقيّة، على من تحمّل المسؤوليّة – صاحب شعار ” الشعب يريد”  – إيجادها فلهذا انتخبه المواطنون  دون  أن يواصل تعليق فشله على شمّاعة الآخرين …  الأزمة التونسيّة الحاليّة هي أزمة مركّبة تحتاج إجراءات سريعة و جذريّة و هذه الحلول و الإجراءات لابدّ أن تكون تشاركيّة … فللبلاد من الكفاءات داخل البلاد و خارجها ما يمكّنها من الخروج من الأزمة بشرط الانفتاح على هذه الكفاءات و قبول ما تتقدّم به من مقترحات … أمّا مواصلة الصّمت و انتهاج سياسة التّعتيم و اعتماد الفكر الواحد فإنّها لا يمكن أن تحقق الخلاص المنشود و لن تزيد الأوضاع إلا تأزّما …

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version