اطلبوا العلم ولو في الصين … ويمكن أن نزيد على الحديث الشريف: واطلبوا الشهامة العربية ولو في دولة جنوب إفريقيا !
فعلا … فهذا البلد الفسيح الذي تبعد عاصمته (بريتوريا) عن غزة 6396 كيلومترا، وعن رام الله 6411 كم، وعن القدس 6435 كم … أي في كل الحالات تزيد عن الستة آلاف كيلومتر بالطائرة إذا افترضنا أن هناك طائرة يسمح لها الكيان الغاصب بزيارة فلسطين، وإن سمح لها فأين ستحط ولا مطار في غزة ولا أي مكان بقي لم يلحقه دمار العدوان … كما أن جنوب إفريقيا/غزة أكبر ـ وبكثير ـ من أية مسافة بين الشعب الفلسطيني وأية عاصمة عربية تصرخ إذاعاتها كامل اليوم بأن قضية فلسطين هي قضية العرب المركزية، وتبث أغاني فرقة العاشقين وأشعار محمود درويش وصورا بالأبيض والأسود عن النكبة … وفوق هذا، تحتفل هذه الإذاعات سنويا بيوم الأرض ويوم الكرامة ويوم الشهيد ويوم الأسير ويوم من أيام زمرا …
قرابة المائة يوم تمرّ وسماء فلسطين تمطر نيرانا وقنابل وصواريخ بكل الأحجام وطاقات القتل والإبادة … والإثنتان وعشرون دولة المرسمة في الجامعة العربية (بما فيها دولة فلسطين نفسها) تقف موقف المتفرج عما يحدث للشعب الفلسطيني وكأنها مشاهد سينمائية أو صور من الأرشيف … الذي يقول هذا حرام، والذي يقول هذا عيب، والذي يدعو إلى ضبط النفس، والذي يدعو إلى عدم الإفراط في استخدام القوة … أما الجامعة العربية فقد قالتها صراحة بأن العنف مدان من جميع الأطراف … على أساس أن الشعب الفلسطيني “طرف” في العنف ويستحق بدوره الإدانة …
وهناك دول تكلمت مثل سارق الدجاج في حكاية جحا … أي راحت تجيب دون أن يسألها أحد: ولماذا تريدوننا أن نحارب إسرائيل؟ … يا عمّ ومن طلب منك ذلك؟ … الفلسطينيون ومنذ أول يوم من سنة 1965 (أي قبل خطاب الزعيم بورقيبة بأشهر) وضعوا قضيتهم على أكفّهم ولم يلتمسوا من أية دولة عربية بأن تخوض حربا بالنيابة عنهم … والعرب الذين حاربوا بعد ذلك ـ وحتى قبله ـ إنما فعلوا ذلك لحسابهم الشخصي و”حساباتهم” الخاصة وإن رفعوا فوق مبانيهم لافتة تحرير فلسطين …
وما يقال عن الدول العربية يقال أيضا عن الدول المسماة إسلامية، ولو أني ضد التقسيم الطائفي للدول … وها أن المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية (التي يقع اللجوء إليها هذه الأيام) هو شخص اسمه “كريم خان” من أصل باكستاني، يرفض، أو يتقاعس، عن، إدانة الكيان، وإصدار مذكرات إيقاف بحق قادة إسرائيليين، على عكس ما فعل مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال فترة زمنية قياسية …
بالمختصر … كان المطلوب فقط من الدول العربية (وحتى اعتبارا لمصالحها لا غير) أن تسند القضية الفلسطينية بما تملكه الدول ذات الصفة كدول … أي ذات العضوية الرسمية في أي منتظم أممي، لها حق التصويت وتقديم الشكاوى ومشاريع اللوائح والاتصال بالدول الأخرى ومحاولة الإقناع (حتى لا نقول الضغط) إلخ … وهذا ما قامت مشكورة جنوب إفريقيا، ولم تقم به الدول العربية مجتمعة …
يرجّح كثيرون بأن سبب ذلك أن في جنوب إفريقيا دولة ديمقراطية منتخبة تستمد شرعيتها من شعبها ومؤسساتها الدائمة … فيما الأنظمة العربية عائلات وطغم لا شرعية لها سوى شرعية القوى العظمى التي نصبتها ورسمت لها حدود سياستيها الداخلية والخارجية … وأي خروج عن النص قد يؤدي إلى تصفية الشخص أو انهيار النظام، وقد حدث ذلك غير مرة … لذا، فحتى إذا رأينا جرأة ما في موقف دولة عربية ما، فلن يكون سوى من قبيل ذلك الرجل الذي لم يقف في طابور الأزواج الذين تتحكم فيهم زوجاتهم … وعندما سأله مستفسر عن دواعي موقفه المتمرد، قال: لقد أمرتني “هي” بذلك …