كميات دم الشهداء العرب أرفع منسوبا من مياه الأودية ومخزونات السّدود، والقاتل عبر كل العهود هو إما استعماري حاقد أو حاكم فاسد أو طرف ديني بائد.
نُجلّ كل الشهداء ونُكبر تضحيتهم بأثمن ما يمكن أن يجود به الإنسان : حياته.
ولكن هناك رموزا نوعية لا ينتج مثلها التاريخ كل يوم لكونها صاحبة فكر وقّاد أو ريشة مقاومة أو مشروع مجتمعي مهدِّد بإحلال نظام يُقوّض ما أسّسوه على امتداد قرون (لذلك هم يفعلون كل شيء من أجل إسكاتها). وينتمي إلى هذا المربّع حديثا شهداء في مستوىحسين مروّة ومهدي عامل وغسان كنفاني وفرج فودة وناجي العلي وأبو علي مصطفى وصدام حسين ومحمد البراهمي وشكري بلعيد… موضوع ورقتنا هذه. وبالتالي يمكن اعتبار استشهادهم خسائر فادحة بالمعنى التاريخي لأن اغتيالهم هو إنهاء قسري لمسار طويل وعسير يتأسّس على مهمّة إنجاز نقلة نوعية في حياة مجتمعاتنا الواهنة على مستويات عدة.
شكري ابن الشعب بإطلاق :
كان الشهيد “مُتاحا تماما” لرفاقه وأصدقائه وكل من يلتجئون إليه لأنهم يُدركون أنه “خدوم” وصاحب قلب كبير ولديه ما يكفي من حياء العظماء إزاء المال ليرفض مدّ يده إلى جيوب المكلومين ولا يحسب خطواته النضالية في وجه عدوّ دموي يترصّده. كنت شاهدا ووسيطا في لقاء جمعه بقاض لا تربطه به سابق علاقة، من ضحايا مُطهّر القضاء ومُدجّنه ن.البحيري، وكان الشهيد يومها واثقا تماما من زيف التحفظات المرفوعة في وجه القضاة المُبعدين ومُشدّدا على أن تغوّل الإسلاميين في السلطة لن يستمر طويلا طالما هناك شعبٌ في سليانة غادر مدينته بنسائه وشيوخه وأطفاله، تاركا إياها لوال طاعن في الاعتقاد المذهبي أن “على التونسيين التسبيح لربّهم ليلا نهارا لأنّه أنعم عليهم بسلطة دينية تخدمهم في الدنيا والآخرة” (من كلامهم حرفيا في تلك الفترة). وفي نفس معنى البساطة، وعلى عكس بعض رموز اليسار الآخرين، كان شكري بلعيد أنيقا وبديعا وبهيجا وبهيّا دون إنفاق وقح ودون هوْس مرضي بهندامه والزخارف في مظهره…وكأني بروحه الناصعة ونقائه الداخلي ينعكسان رأسا على ملامح وجهه وألق عينيه فيبدو وسيما دون تكلّف.
شكري اغتاله المجتمع كذلك :
لم يكن الشهيد رحيما مع تِركة المنظومة السابقة فكرا ورموزا وأنساقا في الحكم والتنمية، لذلك ابتهج الكثير منهم لتصفيته. ولم يكن الشهيد ليّنا مع الدوائر القطرية والاستعمارية العالمية، فصفّق هؤلاء (أو ربّما موّلوا وخططوا وجهّزوا ودبّروا وهرّبوا وتستّروا…) للإطاحة به. ولم يكن الشهيد مُهادِنا أو مادّا لجسور تواصل خفيّة مع النهضة في الحكم، فحرّضت عليه وأجّرت مئات الصفحات لتشويهه وشيطنته وتكفيره…ثم طمس آثار الجريمة والتّعتيم على مرتكبيها (وهذا فقط ما هو ثابت الآن). وشكري لم يكن مُجاملا لمزاج جزء كبير من التونسيين الذين صدّقوا “خوفهم من الله”، فراح عدد منهم يُجهّز المرطّبات اغتباطا داعشيا بالتخلص منه (وهذا ما رواه لي “عطّار” الحي الذي أسكنه يوم 06 فيفري 2013). والشهيد لم يتعامل مع الدّعاة والتقاة والشيوخ كمجرد أصحاب فكر إنساني وجبت مقارعتهم بالحجة، وإنما كمرتزقة مجنّدين لتنفيذ خطة تكفير وتعبيد للطريق أمام أخونة كامل المنطقة بإسناد استعماري وصهيوني مخطط له بعناية. وشكري كان يعلم جيدا أن الإعلام المرئي بالخصوص سلاح ذو حدّين يسمح بالانتشار ولكن في ذات الوقت يضعك وجها لوجه مع أشد أعدائك دموية وإجراما، فسرّع بعض الإعلاميين بعملية حتفه. وأخيرا، لم يكن الشهيد متماثلا مع “ميول البعض من رفاقه القياديين في الجبهة الشعبية آنذاك إلى تأسيس مسار ديمقراطي رومانسي يُعيد تجربة الكلّ ضد بن علي” حتى أن هؤلاء تعففوا عن التقاط لحظة 08 فيفري في ظل تعاطف شعبي وعسكري وأمني هادر وغير مسبوق.
شكري في عيون البسطاء :
استمعت إلى آلاف التعليقات حول استشهاد شكري بلعيد ولكن عندما يعترضك أناس بسطاء في أعماق الريف وقيعان المدن يبكون “بالشّهقة” على فقدان هرم من أهرامات التونسيين بكل ذلك الحقد والتشفّي، تتيقّن أن الشهيد استطاع دخول قلوب الناس مُخترقا سُمك الدعاية التي ضُربت على شخصه… فهبّوا إلى توديعه باكين وشامخين في نفس الوقت بمئات الآلاف يوم 08 فيفري.
تقول خالتي ربيحة، تلك المرأة الجبلية التي ترعى غُنيماتها نهارا في مروج العُشب الجزائري على الحدود وتبيت ليلا في أرض تونس :
يا نحري عليك آه يا شكري
أمّيمتك تليّعت رُحت عليها بكري
كلمتك مقدودة … واشارتك مقصودة
وعِدْوتك خيّان… طريقهم مسدودة
……..
شكري يَعرض عنه البعض ولكن يهابه الجميع :
كان الرئيس الأسبق منصف المرزوقي أثناء محادثاته مع الأحزاب السياسية القائمة آنذاك حريصا على عدم استقبال الشهيد لوحده في القصر، مُلحّا على حمة الهمامي أن يكون حاضرا أثناء اللقاء اتّقاءً لحدّية شكري بلعيد وتجرّئه على تحميله مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في تونس حين استشرى الإرهاب وتمّ تفخيخ الإدارة ووضع اليد على جهاز القضاء من قِبل حركة النهضة، الطرف الأقوى في الائتلاف الديكوري الحاكم. هذا علاوة على عدم شعور هؤلاء جميعا بأي نوع من الحرج (الذي يرتقي إلى الاستحسان عند بعضهم) أمام ما تُردّده الماكينة الدعائية الزرقاء داخل القصر وخارجه، من أن الشهيد قد تكون متعلقة به ملفات مشبوهة. (وهذه ليست تخمينات بل معلومات مازال أهلها على قيد الحياة).
كان الشهيد من الأصوات القليلة التي ارتفعت بكل ذلك الوضوح والتصميم والشجاعة ضدّ اتحاد القرضاوي (الذي يسميه عميلا ومرتزقا ومتعاملا مع الصهيونية) وضد “شيوخ الفتنة الآتين من الربع الخالي حيث الجهل المعمّم” كما يقول، وضد “شيخ الكذّابين” الذي أفتى بأن ختان الإناث هو مجرد عملية تجميل …وضدّ ما يسمى بالجمعيات والنوادي والمدارس القرآنية المموّلة خليجيا والتي تهدف إلى إطلاق العنان للبناء الإخواني القاعدي… بعد كل هذا تجرؤ عبير موسي (والتي تُمعن في عدم اعتباره شهيدا) على القول بأنها تنويريّة تتصدّى دون سواها لاتحاد العملاء المسلمين ومحاولات أخونة المجتمع بالرغم من أنها كانت تهابه وتحسب له ألف حساب.