بعد أكثر من عام على الحرب الأوكرانية تتكشف طبيعتها، مباشرة وصريحة، باعتراف الرئيسين الأمريكي “جوبايدن” والروسي “فلاديمير بوتين”.
إنه الصراع الدامي على مستقبل النظام الدولي، حساباته وموازين القوى والمصالح فيه.
لم تكن مصادفة زيارة “بايدن” إلى كييف عشية العام الثاني من الحرب، أراد أن يرفع مستوى التعبئة السياسية والعسكرية خشية أن يفلت زمام الموقف من البيت الأبيض، أو أن تساور الشكوك أعضاء حلف “الناتو” في قوته ووحدته وقدرته على كسب معاركه العسكرية.
ولا كانت زيارته إلى بولندا واجتماعاته فيها مع “مجموعة بوخارست”، التي تضم (9) دول تمثل الجناح الشرقي للحلف، مصادفة أخرى.
أراد أن يبعث إلى البولنديين رسالة طمأنة باعتبارها الطرف الأوروبي الأكثر انخراطا في الجهد العسكري لـلناتو على الحدود مع أوكرانيا.. “إننا ماضون في الحرب ولن نسمح لروسيا أن تكسبها”.
مداخلاته في بولندا استهدفت التأكيد على “وحدة الحلف”.. وأنه بات الآن أكثر قوة عما كان عليه قبل عام.
كان ذلك عملا تعبويا لرفع منسوب الثقة العامة في أوساط الحلفاء.
تبدت رسالة ثانية، رمزية هذه المرة، في اختيار العاصمة البولندية وارسو، كمنصة إطلاق لرسائله الجديدة.
بإرث التاريخ فإن وارسو كانت مقرا وعنوانا لحلف عسكري مضاد لـ”الناتو” يقوده الاتحاد السوفييتي السابق في سنوات الحرب الباردة.
أراد أن يقول إننا هنا الآن، نبحث في المخاوف الأمنية لدول كانت إلى وقت قريب أعضاء في “حلف وارسو” من تمدد شرارات الحرب إليها.
بإلحاح ظاهر تطرق مرة بعد أخرى إلى التزامه بالمادة الخامسة من ميثاق حلف “الناتو”، التي تعتبر أن أي اعتداء على إحدى دوله اعتداءً على الحلف كله.
فيما تسرب عن اجتماعه مع “مجموعة بوخارست” أن قادتها طالبوه بتمركز أكبر للقوات الأمريكية في أوروبا لحمايتها من أية عمليات عسكرية روسية محتملة!
لم يكن حديث “بايدن” عن طبيعة الحرب الأوكرانية كصراع على المستقبل كلاما عابرا في أجواء ملتهبة بقدر ما كان تعبيرا دقيقا عن حقيقة الموقف.
المعنى أنه ليس واردا أن تتخلى الولايات المتحدة بكل الوسائل المشروعة، أو غير المشروعة، العسكرية أو غير العسكرية، عن هيمنتها على النظام الدولي مهما كانت التبعات والتكاليف.
هذه هي الحقيقة الكبرى في كل ما جرى على مدى عام كامل.
الحقائق غير الذرائع التي ترددت طويلا وكثيرا عن طبيعة الحرب، أنها “من أجل الديمقراطية وقيمها”، أو “دفاعا عن أوكرانيا ووحدة أراضيها”، أو “حماية للأمن الأوروبي من أي تغول روسي عليه”.
من زاوية استراتيجية أمريكية فإنها قبل كل شيء دفاع عن الدور الأمريكي المهيمن على النظام الدولي المتهالك.. و”الناتو” كلمة السر في الإبقاء عليه وتواصل الهيمنة الأمريكية.
يستلفت الانتباه ــ هنا ــ أن السياسة التي يتبعها “بايدن” في النظر إلى مركزية الناتو تناقض تماما ما تبناه سلفه “دونالد ترامب” من تهميش للحلف والتخلي عن أية التزامات سابقة تحت شعار: “الأمن مقابل الدفع”!
لمرات عديدة أعرب “بوتين” أنه يتطلع لبناء نظام دولي جديد أكثر تعددا وعدلا لا تتحكم فيه دولة واحدة، دون أن يكون لديه مشروع واضح يتعدى الشعارات العامة.
خاطب بوتين الضجر الدولي المعلن والمضمر، من هيمنة القطب الأوحد خلال سنوات ما بعد الحرب الباردة، وقد كانت مريرة، لكنه لم ينجح في اختراقات كبيرة ذات وزن بالجمعية العامة للأمم المتحدة بأثر الضغوط الدبلوماسية الأمريكية.
في البداية استخدم ذريعة الأمن الروسي إذا ما تمكن “الناتو” أن يتمركز على حدوده المباشرة مع أوكرانيا، أو أن تكون خنجرا في الخصر على عكس ما تعهدت به الولايات المتحدة مقابل موافقة موسكو على توحيد الألمانيتين مطلع تسعينات القرن الماضي.
كانت تلك ذريعة مقنعة لمواطنيه.
وكان سجل التهميش والعنصرية تجاه كل ما هو روسي في أوكرانيا ذريعة ثانية بررت ضم أربع مناطق أوكرانية إلى الاتحاد الروسي.
مشكلة بوتين الرئيسية أنه لم يحظ بدعم من حلفاء أقوياء يوازن ما توافر للولايات المتحدة. الصين، حليفه الاستراتيجي المفترض، تعرضت لحملات ابتزاز متصلة تؤكد دون دليل واحد أنها تمد موسكو بالذخائر والأسلحة، وأنها تنوى أن تشارك في الأعمال القتالية بالفترة المقبلة.
نشرت تقارير استخباراتية في كبريات الصحف الأمريكية لوضع الصين تحت الضغط الشديد سعيا لإرباك خططها في التقدم إلى الموقع الأول في الاقتصادات الدولية.
إذا تورطت في الحرب خسرت مستقبلها الاقتصادي الذي تطمح إليه.
وإذا انزوت تخسر مستقبلها السياسي وتتهددها احتمالات الحرب في محيط تايوان.
أخطر ما قد يحدث في العام الثاني للحرب أن تتسع دوائرها بالإفراط في التحرش بالصين وبيلاروسيا وأي حلفاء آخرين مفترضين.
مع بداية العام الثاني من الصراع الدامي على المستقبل الاحتمالات كلها مفتوحة على التصعيد المتصل.
في خطوتين متضادتين، بالفعل ورد الفعل، جرى تراشق استراتيجي جديد بين اللاعبين الدوليين. “بايدن” أعلن عن حزمة عقوبات جديدة على موسكو تشمل وضع سقف لأسعار الغاز الروسي ومقاطعته كاملا في مدى منظور لحرمان آلة الحرب الروسية من أية مصادر دخل تساعدها على المضى قدما.
سلاح العقوبات القاسية لم ينجح فى “تركيع موسكو” لكنه يقينا أرهقها اقتصاديا.
“بوتين” بالمقابل رد على الضربة الاقتصادية الأمريكية بضربة استراتيجية روسية.
ألغى من طرف واحد اتفاقية “نيو ستارت” التي تمنع الانزلاق إلى سباق تسلح استراتيجي ونووي بين القطبين الكبيرين.
كان ذلك تصعيدا خطيرا في مستوى المواجهة، أو تلويحا جديدا بالخيار النووي.
أراد “بوتين” أن يقول: هناك خطوط حمراء إذا ما جرى تجاوزها بتهديد الداخل الروسي، أو العمل على تقسيمه وتقزيم حجمه في معادلات القوة الدولية فإن كل شيء محتمل.
بين نظام دولي قديم ومتهالك يكاد يكون أطلالا، ونظام دولي جديد يتعثر في ميلاده يدخل العالم كله إلى عام آخر من الحرب الأوكرانية بتصعيد عسكري متفلت وأفق سياسي مسدود.