للإشارة، هذه المقولة ليست لي … بل هي عبارة لاتينية قديمة، استخدمها أعداء روما ضدها، ثم استخدمتها روما بدورها مع الدول التي وقعت تحت نيرها، و منها نحن … و هناك حتى كلام مماثل يواجَه به جنودها عند عودتهم من معركة خاسرة، مع ما يرافق ذلك من شتائم و مقذوفات و غير ذلك … لهذا السبب ربما، كانت هزائم روما قليلة في تاريخها الطويل، و الحق يقال …
ما جرّني لهذا التعبير القديم، حادثة صغيرة في ظاهرها، و لكن مستفزّة أقصى حدود الاستفزاز في أبعادها … و تتمثل الحادثة في قيام وزير الرياضة باستقبال بشوش و ترحاب عجيب، لبعثة منتخبنا العائدة من أراضي الكامرون … و الذي لم يتابع الأحداث و لا فكرة له عن أداء منتخبنا و نتائجه في الدورة الأخيرة، يقول لا بدّ أننا ربحنا و عدنا بالكأس … يا دين السماء ! … الجماعة فشلوا طولا و عرضا و ارتفاعا، كانوا أضحوكة العالم في أكثر من مناسبة … مرّغوا القميص الوطني في الوحل و سلّموا شرفهم لأصغر دول إفريقيا الفقيرة المحتحتة … و عادوا سعداء، و عادوا مطمئنّين، و عادوا مبررين، و عادوا معذورين، و عادوا مكرّمين …
ثم إذا كنّا بهذه السماحة و الحفاوة بمن عاد بخفّي حنين، فلماذا لم نفعل ذلك في الماضي القريب مع أيوب الحفناوي و هو راجع مظفّرا من أولمبياد طوكيو؟ و لماذا لم نفعل ذلك مع روعة التليلي؟ و وليد كتيلة؟ و تلك الفتاة التي تألقت دوليا في الرياضيات؟ … لماذا لم نفعل ذلك مع من يصنع سيارة تونسية اكتفى يوسف الشاهد باستعراضها أمام دار البرلمان و وقف الأمر هناك؟ … لماذا لم نفعل ذلك مع الهاتف الجوّال الوحيد ذي الماركة التونسية وسط غزو جارف من الماركات الأجنبية التي نتباهى بها كالقطيع الأبله؟ … لماذا لم نفعل ذلك مع ممرضينا و أطبائنا الذين حملونا على سواعدهم طيلة العامين الأخيرين، و في النهاية يئسوا من جحودنا فسلكوا طريق الهجرة أسرابا؟ …
نحن قوم نقدس الفشل و لا نرتاح إلا للساقطين و هذا ليس جديدا … و في الرياضة دوما، إلى الآن لم أشفَ من حُرقة استقبال حفيّ سابق بفاشلين آخرين … كان ذلك عقب النهائي الخاسر الذي لعبناه في جنوب إفريقيا 1996، و الذي تنازلنا فيه عن جبن للبلد المنظم بدعوى أنهم هددونا بالقتل … أي و الله … و كأنّ “جوهانزبورغ” أكثر خطورة من الأحياء الإجرامية المكتظة في ريو دي جانيرو … حيث من شدة خوفهم منها، سحق الألمان البرازيل بسباعية يا أبناء سبعة أشهر ! … و لم يكفنا هذا، بل تقرر الاستقبال الشعبي و الرسمي لمنتخبنا من قبل حتى أن يخوض دوره النهائي … يعني اخسروا و لا عليكم، فأنتم أبطال حتى و لو داسكم الخصم بساقيه الاثنتين …
و نتيجة هذا الدلال الزائد لمن لا يستحق، أن نفس منتخبنا في الدورة الموالية “كرك” في ربع المسافة … و بدأنا مذّاك رحلة عار و عقدة لا يصدّقها أحد مع بوركينا فاسو، و منها إلى كافة الدول الإفريقية كبيرها و صغيرها !
صغار النفوس قد يقولون لك إن الوصول إلى نهائي 96 في تلك الظروف يعدّ بطولة في حد ذاته … و الجواب أنك وصلت إلى نهائي قارة متخلّفة جاهلة مدقعة البؤس، و ليس إلى نهائي كأس العالم … و حتى في كأس العالم، لا أحد يفرح بمجرد الوصول إلى النهائي … أنت وصلت هناك، فما عليك سوى الانتصار… و إن لم تنتصر، فلا بديل لك عن الشعور بالخيبة و الخجل لو كنت رجلا … هولندا الصغيرة جدّا ذات كأس عالم لعبت لأول مرة في تاريخها المباراة النهائية … بل لأول مرة تتجاوز الدور الأول في مشاركاتها النادرة … و مع ذلك و رغم أنها سيطرت في النهائي و خسرت بصعوبة أمام البلد المنظم (ألمانيا)، فإنهم عاشوا غدهم في شبه حداد وطني … و دون مبالغة …
هكذا تولد الأمم القوية و هكذا تعيش و من هنا تصنع الأمجاد … مع العلم بأن منشد (و من لا يروم صعود الجبال، يعش أبد الدهر بين الحُفر) هو شاب يافع من واحات الجريد التونسي … و ليس من هولندا و لا من الدانمارك …