شاهدت مؤخرا تحقيقا مختصرا عن مصنع الورق وعجين الحلفاء بالقصرين، وكانت الصور خير ناطق باسم تخلّفنا المريع الذي لا أظنه سينتهي في المدى المنظور …
… بل بعد مائة سنة على الأقل ! لا تشاؤم في الموضوع ولكن هاهي الحالة: المكان مهلهل قذر كأنه إسطبل مهجور … برك الماء ونفايات مختلفة تفرش الأرضية كمدخل ملعب في يوم ممطر … عمّال بلا أزياء مهنية يتجوّلون بين الآلات بشكل يذكّرك بالمشترين في سوق السعي أيام عيد الأضحى … الغريب أن المعمل “عاد” للاشتغال كما قالت الصحفية المعلقة، بدليل أن سلسلة الإنتاج كانت تدور وشريط الورق الأبيض ينتقل من ترس إلى ترس … فيما تترصف مع الحائط أعمدة من اللفافات المعلّبة الجاهزة للتسويق … ولا تقلق صديقي وأنت ترى بعضا من هذه اللفافات مأكولة قليلا في جنباتها، ربما بفعل الرطوبة، ربما بفعل الفئران، أكيد بإهمال ابن آدم …
مسؤول كبير وقف للتحدث مع مبعوثة التلفزة الوطنية … أولا نحن نعلم أن معمل القصرين يتمتع بصبغة مؤسسة عمومية تجارية، يعني شبكة أجوره أرفع (رغم الإفلاس) بكثير من بقية المؤسسات … ثانيا أجور وامتيازات مدرائه حدث ولا حرج … ومع ذلك فقد كان هذا المدير على حالة مزرية ومظهر غير لائق يصعب معه أن تتخيّله يرأس شركة تنتج مادة نادرة ومطلوبة عالميا … والكلام له… يصعب كذلك عليك أن تصدق بأن عجين الحلفاء لا يتوفر إلا عندنا مع ثلاث دول أخرى … وأن إمكانيات استغلاله تفوق الحصر (ورق، نسيج، مواد تجميل، عزل مبان، سترات واقية إلخ) ويمكن أن يدرّ ثروات طائلة على القصرين وكامل البلاد …
تصوّروا لو أن ذات المعمل كان في إحدى دول الشمال … إينعم الشمال الذي نسافر إليه ونذلّ أنفسنا في سبيل تأشيرة لزيارته ويركب أبناؤنا البحر حرقا وغرقا للعيش فيه هربا وجبنا من بلدهم المنكوب بهم قبل كل شيء … كثير، بل كثير جدّا، من مسؤولينا يزورون مدن أوروبا، وفيهم من درس هناك، ويعودون إلينا في كل مرة … ولكنهم لا يعودون بفكرة ولا بحلم ولا بسؤال لماذا لا نجعل بلادنا كتلك البلاد … ولو في أبسط تفصيل … هندام مؤسسة وهندام مسؤول بها … فقط يكفي هذا … حتى واجهة المصنع لا توحي بأنك أمام صرح وطني عمره اليوم 67 سنة، أي أقدم من عديد مصانع جنوب شرقي آسيا التي تحتلّ الكرة الأرضية حاليا … الواجهة توحي بأنك أمام دكّان سائب في أحد أريافنا النائية، فقط لا غير …
ولا كلام طبعا عن حالة التصرف في هذه المؤسسة التي من المفروض أنها صناعية وتجارية من الطراز الأول في قطرنا … أفلست وأغلقت طويلا ثم أعيد فتحها بضخّ “سيروم” من خزينة الدولة … بينما المنتظر أنها هي ومثيلاتها من تموّل الخزينة لا العكس … وقس عليها كافة مصانعنا وشركاتنا العمومية ولا استثناء، نفس التصرف، نفس النتائج، نفس المظهر، نفس اللامبالاة، نفس التدحرج نحو الهاوية …
ولكن تلك هي حالنا … والرؤوس الملحّمة لا يمكن أن تصنع حضارة … لا يمكن … لا يمكن …