جور نار

القوة الخشنة … و القوة الناعمة (2)

نشرت

في

عندما شن “جاك لانغ” وزير الثقافة الفرنسي الأهمّ في المائة سنة الأخيرة بالتساوي مع أندريه مالرو … عندما شن لانغ حملته بداية التسعينات تحت عنوان “الاستثناء الثقافي” من اتفاقية التبادل الدولي الحرّ، لم يفهمه ناس كثيرون و أوّلهم زعيمة العالم الليبرالي: الولايات المتحدة الأمريكية … ففرنسا مثل حليفتها لما وراء الأطلسي، دولة رأسمال و اقتصاد سوق، و لا تؤمن رسميا بالنظام الحمائي و لا بهيمنة الدولة و لا بالحزب المركزي و ليست من المعسكر السوفياتي … إذن؟

<strong>عبد القادر المقري<strong>

الذي جرى أن هذا الوزير و وراءه قسم كبير من مثقفي الجارة الشمالية، يعتقدون أولا أن الثقافة ليست سلعة تدخل و تخرج و تخضع لعرض و طلب … و ثانيا و هذا هو الصحيح، أن الموجة الطاغية على ثقافة العالم و منذ عشرات السنين، هي الموجة الأنكليزية لغة و قيما و رموزا و مجالا حيويا ما فتئ يتسع ليشمل كل العالم … إنها العولمة … و أمريكا هي القوة الأولى و الأبعد سيطرة، وهي بلد أنكلوفوني بامتياز … مقابل هذا، تتراجع الثقافة الفرنسية من لغة صارت السادسة عالميا، إلى موضة هاجرت من باريس إلى روما و ميلانو، إلى إتيكيت احتكرتها العائلات الملكية الأوروبية، إلى أجبان صار أفضلها و أغزرها ينتج في هولندا و سويسرا، إلى خمور نالت منها ماركات عريقة من البرتغال و إيطاليا و روسيا …

 و لخساراتها المتلاحقة، ترصد فرنسا ترتيبها الثقافي دوليا بعين قلقة بل مريضة، و تصيب أجهزتها وسوسة موروثة عن العهد الاستعماري الذي يضع الفرنسيون فيه اللغة قبل المدافع و بعدها … و لو دققنا في مرحلة تصفية الاستعمار الفرنسي و الاتفاقيات التي أبرمت على أنقاضه، نجد أن الجلاء يشمل الجندي، و المعمّر، و المقيم العام، و المراقب المدني، و العلم الثلاثي الألوان … و لكنه يتشبث شرسا ببقاء لغة موليير في مكانها بل بتعزيز أكثر … يقع هذا بالترهيب و بالترغيب أيضا، مساعدات نقدية، مساعدات عينية، إرسال معلّمين، منح دراسية بجامعات فرنسا، فضلا عن التعاون الثقافي و تشجيع الإنتاج الناطق باللغة الفرنسية …

و لئن كان الفرنسيون الأحرص على النفوذ الثقافي و لكن في شكله الأكثر بدائية (اللغة) تماما كغيرها من امبرياليات البحر المتوسط، فإن كل الدول الكبرى تفعل الفعل ذاته و لكن بأشكال أقل فجاجة و لكن أنجع … مثلا الأنموذج الأنكلوسكسوني يعمد إلى نشر ثقافته باللغة أو من دونها، المهمّ أن الأفكار و أنماط العيش و قيم الحياة اليومية تخترق شغاف المجتمعات و تخلق حاجة ملحّة إلى منتجات بلد بذاته …

 لذلك تشتمل الأفلام و المسلسلات الأمريكية على بروباغندا مستمرة للنمط الأمريكي و لكن بحذق كبير وقدرة فائقة على إخفاء القصد الإيديولوجي … هم لا يقولون لك كن معنا، و لكن يسوّقون لآرائهم وسياساتهم على أنها هي الحرية والرخاء و العدل و حقوق الإنسان … إلى درجة أن هناك قوانين صارمة في هوليوود تفرض على المنتجين بأن يكون هناك تعدد في أجناس الممثلين و ألوانهم بنسب ما، و أن يقع تقديم الأقليات على أنها محترمة، بل و يدخل هذا “التمييز الإيجابي” حتى في مجرى القصة و توجيه تعاطف المتلقي …

ـ يتبع ـ

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version