تتمة لأقوال البارحة، كم أردنا الابتعاد قدر الإمكان عن لغة البكائيات و اللطميات التي تعوّدناها من وقت الخنساء إلى ساعتنا … في هاهم غدرونا، و هاهم قتلونا، و هاهم ظلمونا، و هاهم يكيلون بمكيالين، و هاهم يكذبون علينا، و هانحن شهداء … لا، ففي أوار المعركة ليس هناك شهداء، بل خسائر حرب … و الأمم الشمّاء تخفي خسائرها و لا تعلنها و تمعن في إعلانها كما نفعل …
لا أحد يقدم هدية لأحد، و كل الأسلحة مشروعة في حرب بلا أخلاق … و متى كانت للحروب أخلاق؟ … و ما قلناه عن الحقائق التي يقع طمسها و التي يكيّفها الإعلام الغربي على ضوء مصالح مموّليه … هذا موجود حتى عندنا نحن أيضا، وربما كنا روّادا قارحين في مغالطة شعبنا و تطويعه بالعصا الغليظة ساعة، وبالإذاعات و التلفزات ساعات بلا حصر … و انظر فقط إلى معارك الهايكا ـ حقا و باطلا ـ تفهمْ أنك لست حيال إعلام من الأنبياء … و لكن هذا بقدر ما هو مرفوض في مجالنا الداخلي، فهو مرغوب و أحيانا ضروري في حالات الدفاع عن النفس الوطنية …
مرفوض أن يتلاعب أحد بمواطنيه، فهم أصحاب الأرض و دافعو الضرائب و مموّلو الميزانية التي تعيل الرئيس و الوزير و الإعلامي و حارس الحدود … ثم هذه البلاد هي النواة التي نقف عليها و نعيش منها، و كل طعنة في جسدها إنما هي ضربة مطرقة قد تهدّ البناية على رؤوس الجميع … إذن المطلوب لا فقط الامتناع عن ضربها، بل بذل ما في الوسع لحمايتها من أي مساس خارجي، و كل بلد يدافع على قدر حجمه و المدى الذي تصل إليه مصالحه … هذا المدى الذي قد يقف عند حدودك الجنوبية على بوابة راس جدير، و قد تضاف إليه أسواق منتجاتك في ذلك البلد الجار و معه جملة أجوار قريبين منك في الاتجاهات الأربعة … و قد يتسع إلى ما أبعد، و يشمل إقليما أو قارة أو قارات العالم أجمع ومحيطاته و براريه …
الدول الوطنية ترسم سياساتها الدفاعية و أمنها القومي على هذا الأساس … قلت “الدول الوطنية” في القلب و القالب، و لا أحكي عن أشباه الدول و أشباه رجال الدول من صغار النفوس و عملاء الخارج والمفكرين بمنطق الجماعة التابعة لا الوطن الحر … نعود … نحن اليوم يختلط لدينا الأمن القومي بالأمن الترابي، و ذلك وفقا لمحدودية أذهاننا و أيضا لمحدودية واقعنا المزري الذي نتخبط فيه و يقتصر فقط على مساحة ترابنا الوطني و إن شا الله … يعني حتى مواطنونا بالخارج لا يدخلون في حساب أمننا القومي ومجلسه الذي يرأسه رئيس الجمهورية … بل تركنا شأن هؤلاء (و هم لا يقلّون عن نسبة 20 بالمائة من مجمل التونسيين) سائبا على كاهل دول إقامتهم أو منظماتها الخيرية أو عبث الأقدار …
و بين قوسين … نفس المصير تقريبا خصصناه لمناطقنا الحدودية التي تركنا حبلها على غارب دول الجوار، ولم يتغير ذلك الوضع على مر الأجيال و الحكومات …