لم يكن ديفيد بن غوريُون بحاجة إلى مليون كلمة ليجعلَ من العبريّة لغة كيانه الإستيطاني الطّالع من ضِلع فلسطين قبل حوالي ثمانين عامًا.. فقد أشار عليه مستشارُوه إلى أنّ لغة اليديش، شبه الميتة، في حواري اليهُود بأوروبا الشرقية كفيلة بأن تكون المُعبّر الأبرز عن هُويّة مسْخٍ سياسيّ مُبتكر كما يقول المؤرّخ المتنصّل من يهوديّته شلومُو صَاند. فاعتمدها بن غوريون وهو الذي قال هل يمكنُ للغة انتهت منذ ألفي سنة أن تُبعثَ من جديد؟.
بدأ مُعجم العبريّة بخمسةِ آلاف وستمائة كلمة فقط، واعتمد لغويُّوها النّحو العربيّ لتطويرها، وأهابوا بقدرة العربيّة في منح اللغة العبريّة إمكاناتِ جعلهِ كيانًا مكتمل الأركان، ولم تمض سنوات حتّى كان هذا الهجين اللساني من لهجَاتِ الحواري وقامُوس التّوراة مُستخدمًا في معهد “وايزمن” للذرّة، وصار الطّفل “الاسرائيلي” عارفًا بمداخل ومخارج العبريّة في أقلّ من ثماني سنوات. وكلّ هذا يبدو أمرًا طبيعيّا، طالما هناك رغبة في استحداثِ ثوابت لكيان غير ثابت، إلاّ أنّ غير الطبيعي هو ما قرأتُه من أنّ للجمَل والنّاقة أكثر من ستّة آلاف اسم في اللغة العربيّة أو ما ارتبط به، حسب المُستشرق النّمساوي جوزيف فون هامَر بورغستال J. Von Hammer-Purgstall (1774-1856) أي قبل مائتي سنة.
وأمام هذا الرّقم، لم أجد بدّا من ضرب أخماسي بأسداسي، وأقول “أليس من العجب أن تكون أسماءُ ناقةٌ شاردة في صحراء العرب أكبرَ عددًا من مُعجم من لغة هجينَة في غيتُوهَاتٍ سجينة؟” أي أنّ العبريّة بمُعجمها لم تصل عددَ كلماتِ جَمل عربيّ من قبيل ناقة ومطيّة وفحل وبعير وبكرة وخلفة ولقحة وخلوج وهجن وهمل وراحلة وذلول وعشراء وزمل وقعود وعيس ومسوح ودوسر وبخت وقلوص وشول وشملال وقوداء ووجناء.. وغيرها كثير من الأسماء والصّفات. وهذا يعني أنّ العبريّة لا تحتملُ وزنَ أكثر من اسمٍ واحد للجمل العربيّ.وليس غريبًا أن يجعلَ اللغويون العرَب من كتاب “العين” للخليل بن أحمد مرجعًا لهم في عدد كلمات اللغة العربية، إذ أنّ نظريّة التقلِيب (أيْ قلب المعنَى بإعادة ترتيب الحرُوف، مثل كمال، كلام، ملاك، كامل..) أنتجت 12.305,412 كلمة يحالُ كثيرٌ منها على متحف اللغة كونه لا يُستعمَل أو لا معنَى له، بل إنّ الباحث العربيّ يكفيه استخدام ما بين 0.04% و 0.1% من متُون اللّسان العربي في عديد المجالات، أي 12 ألف كلمة.
والحقيقة أنّ هذه النسبة توصلتُ إليها، شخصيًا، بعد إنجاز دراسة حول الأمن اللغويّ والحُروب اللغوية في العام 2006، معتمدًا على معايير اليونيسكُو التي تشيرُ إلى أنّه يكفي الإنسان ثلاثة آلاف كلمة للتواصل، وستة آلاف كلمة للقراءة والكتابة والتّعبير، واثنتي عشرة كلمة للتفكير والتأليف والإنتاج الثقافي والعلمي. وأذكرُ أنّ ناقدًا أدبيا أحصىَ وجود 280 كلمة استخدمَها شاعرٌ جزائريُّ في ديوانٍ من مائة وعشرين صفحة. والسّبب أنّه يُكرّر المُفرداتِ نفسها في قصائده المنثُورة. وبمعنى آخر أنّ الفقر ليسَ في معجم اللغة العربيّة ولكن الشّحّ بارزٌ في مستخدميها، أي أنّهم مستثمرون سيّئُون..
أمّا الانكليزيّة فيقدّر خبراءُ اللغة أنّ قاموس أوكسفورد أحصَى مليون كلمة أقلّ من نصفِها مستوردٌ من لغاتٍ كثيرة، ومن اجتهاداتِ عصر بيل غيتس، أمّا نصفُها الآخر فهو ملكٌ لشكسبير وشُركائه في تاريخ الآداب والمعارف الانجليزيّة. ولعلّ التحوّل الذي حدث في البنية اللغوية للإنجليزيّة هو الذي دفع كثيرًا من اللغويين الانجليز إلى المُطالبة بتفعيل فكرة “الأكاديمية الملكيّة للّغة الانجليزيّة” بعد أن تحوّلت “قاتلةُ اللغات” كما يُطلق عليها إلى مجرّد “برنامج معلومَاتي” مثلما وصفها الصّناعي الفرنكُو- لبناني كارلوس غُصن. ومع هذا فهي اللغة الوحيدة التي بلغتْ سقفَ العالميّة، عكسَ اللغة الفرنسيّة التي لم تنفع معها عملياتُ حقنِها بمنشّطات ثقافيّة وسياسيّة، لتحافظ على موقعِها في العالم، إذ أنّ خبراءَها وسياسيُوها (وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والبرلمان الفرنسي) اعترفُوا مُكرهين في ربيع 2013 أنّ جامعاتِ فرنسا لم تعُد قادرة على مواكبة وتيرة البحث العلمي بلغة فُولتير،
فاتخذت قرارًا تاريخيًا، رغم مُعارضة الأكاديميّة الفرنسيّة ومجمع الخالدين فيها، وكذا منظّمة الفرنكفُونيّة، يقضي بالسّماح للطلبة والباحثين الفرنسيين باستخدام اللغة الانجليزيّة، أو أيّ لغة أخرى، في البحث، وإلاّ فلن تجدَ فرنسا في قادم السنوات باحثًا واحدًا يتحدّث عن لاماراتين أو برُوست.. كما قالت الوزيرة فيوراسو Fioraso صاحبة القانون الذي اغتال الفرنسيّة في بيتِها.. كما قال مناوئُوها.قد يُفسّر هذا بكوْن اللغة الفرنسيّة، في وضعها الحالي، هي ضحيّة الساسة الفرنسيين الذين سنّوا قوانين “الاستثناء الثقافي” وأرسوا منطق “اللغة النقية” ورفضوا تلاقُحها مع اللغات الأخرى لتوسيع مُعجمها من المفردات والمصطلحات والتراكيب اللغوية الجديدة، كما هو الشأن بالنسبة للإنكليزية التي تأخذ من كلّ اللغات دون عُقدة، حتى قيل إنّ قاموسها يتشكّل من 60% أصلي و40% مُستورد ومُشتقّ…