كعادتي حين أعود في ساعة متأخرة من الليل إلى المنزل يحوّل وجهتي أحد أصدقاء السوء من الذين عاشرتهم أيام شبابي…
هذه المرّة اعترض سبيلي التوهامي ولد السكرانة أحد رفاق جلسات السوء سابقا والصديق المقرّب لفوزي الغبّار الذي حوّل وجهتي عديد المرّات من واقعنا الموبوء إلى واقع وهمي تختاره لنا لفافة زطلة، سألت التوهامي أين فوزي يا هذا؟ فأجاب حرق بحرا بحثا عن وطن آخر يحتضنه ولا يموت فيه جوعا…قلت: هل حرق حقّا؟ قال: نعم …ووصل إلى وطنه الجديد سالما…قلت: الحمد لله، رقم آخر ينضاف إلى عدد الناجين من الإحباط واليأس والبطالة وسهرات السوء…نظر إلي التوهامي وقال: ابق هنا ولا تغادر لتُكمل معي السهرة لن أتركك قبل أن تشاركني “‘ڨعمورة” هذه السيجارة المحشوة زهوا وطربا وأحلاما تأخذك بعيدا عن هذه الأرض…قلت: لا لن أعيد ما فعله معي فوزي الغبّار أتركني يا توهامي أنا متعب وأريد أن أنام باكرا الليلة…
صرخ وأقسم برأس أمه “السكرانة” وهي احدى مقدسات التوهامي بعد الله وليفربول وكاترين دينيف وصالح الفرزيط و أتان “بهيمة” عمّ بلقاسم…لم أجد مهربا من الانصياع لرغبة التوهامي ولم انتظر طويلا لأجد نفسي في شارع 25 جويلية عفوا شارع الجمهورية في ليلة شديدة السواد والظلمة…ليلة مخيفة لا نور فيها غير ضوء خافت لا يكاد يُرى خلف احد أعمدة جسر الجمهورية…اقتربت من النور لأعرف ما هو ومن هم حوله فرأيت ويا غرابة ما رأيت، رغيف كبير من نوع الخبز الذي كنّا نعرفه أيام بورقيبة رحمه الله ورغيف آخر اقل حجما منه يشبه كثيرا ما كنّا نعرفه أيام حكم بن علي رحمه الله ورُغَيْفٍ صغير لا يكاد يُرى كالذي أصبح يباع اليوم في مخابزنا ..ثلاثتهم يجلسون على بقايا قطع من الآجرّ حول نار موقدة في بعض الألواح المتروكة من بقايا أحد أبواب منازل الزمن الجميل القديمة هنا وهناك…
يا لغرابة الأمر…جلسة في شارع الجمهورية بين ثلاثة أرغفة من ثلاثة عهود…والأغرب ان ثلاثتهم يتحدثون…ويتناقشون…ويتهامسون…يا لهول ما أعيش في هذه الليلة التوهامية نسبة إلى التوهامي ولد السكرانة…قلت في خاطري عمّ يتحدثون يا ترى؟ هل ثمة امر جلل يتحدثون عنه هنا في مكان كهذا يثير الريبة؟ اقتربت أكثر من مكان جلوسهم وجلست خلف العمود الذي يجلسون تحته من الجانب الآخر وكان هذا ما استمعت إليه من “خبزة بورقيبية” وأخرى “نوفمبرية” وأخرى “لا شرقية لا غربية” طولها شبر …
الخبزة البورقيبية (وهي تنظر للخبزة “الشبر” بعين ساخرة مستهزئة): توّة انت خبزة…ههههه منين جاية…شكون صنعك… ما تقوليش انت تونسية…يكب سعدك شبيك وليتي هكّه ناقصة تغذية…شبيك يا همّ وليتي كي الجرانة؟؟
تقاطعها “الخبزة النوفمبرية” ضاحكة: شفت اوخيتي…وتقول تونسية…لا يا للّة في تونس ما خليناش خبز هكّه أحنا من قبل بكروشنا ولاباس علينا…الخبزة تشبّع عيلة كاملة يا حسرة عليك…برّي عدّي على روحك انت كي هاك المريضة بالسلّ…يعطك كيّة…
الخبزة شبر: حرام عليكم…ما تراعوش ظروفنا…يخي انتم مرّيتو باللي مرينا بيه انا…نسيتوا اللي جات “ثورة” عام 2011 وكملت علينا الحكومات الكل اللي حكمت وما عرفتش تسيّر البلاد…ما سمعتوش اش عمل الاتحاد في البلاد تي ماهو ولى شريك في الحكم وعمل بشرعو في البلاد فقرنا وفرض شروطو كيف ما حبّ وكان يدخل في خشمو في كل شيء…يخي ما سمعتوش بالكورونا…ما سمعتوش بصندوق النقد الدولي ما حبش يعطينا الفلوس (برّي الله يهلكك يا كريستينا جورجيفا خليتينا للضحضاح) نسيتو هذا الكل…ومنين اوخيتي باش نجيبو القمح من أوكرانيا والا من روسيا وهما يتحاربوا عندهم عامين…ومنين باش ندفعوا حقو كان شريناه…علاه موش حرام عليكم ما تراعوش ظروفنا…رانا نعانوا في الخل…أنا مثلا صنعوني بكمشة صغيرة مالقمح ما تشبعش دجاجة وبرشة خميرة باش ننتفخ…ونبان سمينة…ورغم هذا والله ما نجيش قدمة في ايد واحد مسكين جيعان عنده جمعة ما كلاش…
الخبزة البورقيبية: شوف يا سيدي ولات تحكي في السياسة هالخبزة الشبر…وهي كي الوزفة …تي كي انتوما عايشين الأزمة علاش لاهين كان تسبوا فينا…لهيتوا في اصلاح حال البلاد اش لازكم علينا…يخي موش نهار كامل انتم تسبوا في القدم وفي التاريخ…ونهار كامل تجبدوا في دوسيات فارغة عندها عشرات السنين….ما زال كان حنبعل وعليسة ما جبدتوهمش في ملفاتكم…بالكش احنا شادينلكم ايديكم عالخدمة والانجاز والتنفيذ والإصلاح…اشنوة توّه وليتوا عندكم مشاكل وهي اللي منعتكم من الحفاظ على مستوى المعيشة اللي كان، وهي اللي منعتكم من تحسين الأحوال المعيشية للمواطن العادي…تي ماهو اعترفوا اللي انتم فشلتم في تسيير دواليب الدولة وان الشيء صعب عليكم…خبزة ما تفوتش مائة غرام وتقلي خبزة…حليل أمها…
الخبزة النوفمبرية: أوخيتي ما اصح رقعتها تناقش فيك… طولها شبر وتناقش فيك…علاش ما تقولش على المواد الغذائية المفقودة…علاش ما تحكيش على زيت الحاكم…وينو…وعلى الفارينة وينها…وعلى السكر وين غبر…يخي احنا كنّا نعرفوا الصفّ بالطريقة هذه قبل…الصفّ كنا نشدوه في الدخول للستاد…في السينما…في المهرجانات…موش قدام الكوشة…مالفجر…يخي أحنا قبل كنّا نشترطوا كل واحد 3 وألا 5 خبزات بــوشبر ما يشبعوش قطوس؟
الخبزة البورقيبية: بربي يا عشيرتي فكرهم اللي عهدكم انتوما خليتولهم كل شيء…حتى مشاريعكم ومخططاتكم وبرامجكم ولتوه ما كملوهمش…يخي نسيتو الطريق السيارة امتى كانت مبرمجة الانتهاء منها…نسيتو والا نفكركم…تي تكلم يا همّ وفكرهم…وتوّه منرفزة كي قلنالها شبيك كي الوزفة لا تشبع عصفور…توّه هذه خبزة في تونس بلاد القمح…يا رسول الله…تي مادامكم ما عملتوا حتى انجاز وحتى مشروع على الأقل وكلوا الشعب وكلوه علاش تخلوه هكّه يشدّ الصف على الخبز…على الزيت…على السكر….على دبابز الغاز…على النقل…على كل شيء…شنوّة هذا…توّة هذه خبزة يشدّ عليها راجل بطولو وطنطولو الصفّ…
الخبزة شبر: (وهي تبكي …) شبيكم هكّه عليّ اش عملتلكم…يخي نسيتوا انتو اش صارلكم عام 84 موش صارت ثورة الخبز…وماتوا فيها برررررشة ناس…نسيتو…
تقاطعها الخبزة البورقيبية: أه أه من فضلك حدّك حدّ المسقّي…هذيكة ما كانتش نقص في الخبز والا التنقيص من وزنو…كانت مشكلة دعم …لا أكثر ولا اقل…وقتها الحكاية الكل عملها سي زكريا بن مصطفى الله يرحمو كي قال الخبز يتلوح في الزبل…والحمد لله بورقيبة تدخل وقال “نرجعوا وين كنّا” ورجعنا لاباس…والناس الكل تاكل في الخبز والخبز الطليان يا دين الزكش…موش خبزة شبر ما تشبعش قطوس…
الخبزة النوفمبرية شادة كرشها تضحك: اعطيها على راسها عشيري وخوي الغالي اعطيها …قاتلك ثورة الخبز…تي تعرف شنوة خلالهم بن علي في الكاسة…خليني ساكتة…تي فيبالك لتوة قاعدين يعيشوا على مشاريع بن علي ومخططاتو الاستراتيجية…تي بربي ما نزيدوش عليها مسكينة تعال نفكروا في حلّ ترجع بصحتها لاباس وتشبع عيلة…شنوة رايك ندخلوها للانعاش وتعدي ايامات حتى تشدّ صحتها…
الخبزة البورقيبية: لا لا موش هكه ترجع الأمور باهية…قبل كل شيء يلزمنا نعرفوا اشنوة المشكل الحقيقي…الخبزة هذه حالتها تخوف…ووصلت لمرحلة ما يلزمش نسكتوا عليها يلزمنا نعالجوها معالجة جماعية…المعالجة ما تكونش براي واحد وقرار واحد…لا المعالجة تكون من طرف الجميع…افهموني أنا أكبر منكم ونعرف اش معناها الخبزة الوطنية…
الخبزة شبر: هاهو العقل والمنطق أختي الكبيرة الغالية…فسريلي كيفاه نسترجع صحتي ولياقتي ونولي نشبّع عيلة كيف ما كنت انت في السبعينات والثمانينات في عهد بورقيبة والهادي نويرة الله يرحمهم الكل…
الخبزة النوفمبرية: ايه والله بالحق فسرلنا كيفاه ترجع الأمور باهية ويرجع الشعب ياكل الخبز من غير صفّ عشيري…
الخبزة البورقيبية: عام 2011 صارت انتفاضة (أنا نسميها) على الحريات والتشغيل وما صارتش على الخبز…واليوم عندنا مشكل كبير اللي هو أن كل الأمور حابسة واقفة …البلاد واقفة ما صار حتى انجاز وحتى تقدّم في أي اتجاه…احنا اليوم ما حاجتناش بثورة خبز ولا بانتفاضة خبز حاجتنا بإصلاح أوضاع البلاد بشكل سلمي وبالحفاظ على الوحدة الوطنية كما تعودنا على ذلك…
( هنا تقف الخبزة النوفمبرية وتقول هاهو الصحيح ينصر دينك يا عشيرتي…وتردد الله واحد الله واحد بورقيبة ما زيو حدّ..)
وتتدخل الخبزة البورقيبية لتسكتها وتقول لها (يزي بلا طحين)…
تواصل الخبزة البورقيبية حديثها لتقول: أحنا اليوم في حاجة لتشريك الجميع في اصلاح الأوضاع…وما عندناش خيار آخر…يلزمنا مصالحة شاملة ترجع الأمور لنصابها…حاجتنا بالحرية…والخبز…والزوز هما اللي يتسماو ديمقراطية…الخبز من دون حرية ماهوش خبز والحرية من غير خبز ما هيش حرية…ضيعنا سنين في التخلويض …ويجيك في الأخير واحد يقلك احنا حاجتنا بدكتاتور عادل…لا سيدي ما ثماش دكتاتور عادل…أولا ما يلزمناش نبيعوا الأوهام للشعب من خلال كلام لا يعني شيئا…ثانيا ما يلزمناش نتلهاو بالماضي…يلزمنا ناخذوا عبرة من الماضي…الماضي فات…أحنا في حاضر أسوأ مالماضي اللي قاعدين نحاسبوا فيه…ايجاو نحسنوا حاضرنا وبعد يعمل الله…
وتصرخ الخبزة البورقيبية في وجه الخبزة شبر وتقول لها “لا تقاطعيني” وتضيف: الفساد الحقيقي هو ان نغطي على الفشل في اصلاح الحاضر بالعودة على فساد الماضي…اشنوة باش ينفعني محاسبة الماضي وانا ما أنجزت شيء في الحاضر…يعني يحق للي يجي بعدي باش يحاسبني أيضا على اني لم اف باي من وعودي ولم أنجز منجزا واحدا…يعني الماضي بفساده سيصبح أفضل من الحاضر الذي لم ينجز إنجازا واحدا غير الوعود الوهمية…أما موضوع الحريات فهو أمر ما فيهش لعب…لا شيء يعوّض غياب الحريات…فالخبز هو بنفسه يكون طعمه مرّا في ظلّ غياب الحريات… خلاصة قولي الحرية والخبز والتنمية حقوق طبيعية للشعوب وهذه ليست مضطرّة للاختيار بينها…واللي يضحي بحريته اليوم مستحيل يلقى خبزه غدوة…ايجاو نتفقوا الناس الكل على مخرج مللي احنا فيه…مخرج يخلي بلادنا ديمة بخير…
الخبزة بوشبر: والله حتى أنا تعبت وجاني النوم وجيعانة انجم نرقد بحذاكم نخاف نرقد وحدي…
الخبزة البورقيبية: ايجا بيناتنا تو نرقدوا هنا بجنب العرصة هذه ايجا في الوسط ما تخافش..يا فرززو…ههههه
الخبزة النوفمبرية: ما اقواك عشيرتي فرززو…ملا اسم لقيتهولها…خبزة بوشبر…
قلت في خاطري بعد ان استمعت إلى كل ما دار بينهم، لم لا أنام أيضا هنا في انتظار أن يكملوا حديثهم لأعرف اين يريدون الذهاب بالبلاد…ونمت خلف “العرصة” التي ناموا بجانبها من الجهة الأخرى…استفقت صباحا على صوت الخبزة البورقيبية وهي تقول: يا نوفمبرية تي ويني الخبزة بوشبر…؟؟ ألقيت نظرة أبحث عن الخبزة النوفمبرية وجدتها تبتسم وتغني “أحن إلى خبز امي… وقهوة أمي…” …هنا صرخت الخبزة البورقيبية مرّة أخرى في وجه الخبزة النوفمبرية وقالت: قتلك ويني الخبزة بوشبر…تكلم…نظرت في اتجاه الخبزة النوفمبرية وعلامات الرعب بادية على وجهها وهي تقول بصوت خافت: عشيرتي والله البارح جعت كليتها…
في هذه اللحظة بالذات شعرت بوخز في جنبي الايسر: “قوم بابا قوم…وقت فطور… صباح توّه”…نظرت يمنة ويسرة…لم أر خبزا ولا احدا ممن كنت معهم فصرخت “الله يهلكك يا ولد السكرانة…الله يهلكك”…