ألقى بالكتاب جانبا، و سارع بفتح هاتفه الجوال يتصفح ما فاته من أخبار .. لا يدري ما الذي أصابه، لم يعد قادرا أن يسترسل في القراءة لأكثر من ست أو سبع صفحات… عادت به الذاكرة إلى ماض ليس بالبعيد… كان لا يشعر بالوقت حينما ينغمس بين دفتي كتاب… كان يحتال على مصروفه ليقتني آخر الإصدارات… لا يهدأ له بال حتى يكمل قراءة رواية أو كتاب بين يديه..
أين هو اليوم من ذلك العهد..؟ أية لعنة أصابته..؟ اليوم لم يعد له جهد للمطالعة فلا تمر نصف ساعة أو أقل حتى يجد نفسه مدفوعا إلى تلمّس شاشة جواله و الاطلاع على أحدث التغريدات في تويتر و آخر الستاتيات في فايسبوك و الصور و الفيديوهات في الانستاغرام رغم قرفه من كل ما يراه و يطالعه… صار الفايسبوك خاصة مصدرا لتوتره و اكتئابه.. فلا يمر يوم دون أن يقدم ملاطفة لمريض أو تعزية لفقيد.. صار مهووسا بتتبع تطور أرقام الوفيات و آخر أعداد المصابين بداء الكورونا… صار منشغلا بآخر الإشاعات و التسريبات و الاتهامات و بمناورات السياسيين و مناكفاتهم.
في كثير من الأحيان يشعر بنزعة مازوشية تحكمه فقد صار مغرما بتتبع فيراجات القصور الثلاثة و المطبلين لهذا أو لذاك و المتملقين لهذا أو لذاك.. يتلذذ بما يقرؤه من شتائم و سباب في الصفحات الرسمية للرؤساء و النواب و في مجموعات المساندة التي يجيّشها كل طرف .. يضحك حتى يستلقي أرضا لتعليق طريف او كاريكاتير ساخر أو شتيمة مقذعة. يستحضر قول ابن خلدون ( الحقيقي لا المزيف) ” الشعوب المقهورة تسوء أخلاقها ، فالعيش في الاستبداد و القمع و إذا رافقه الفقر و الجهل يضعف اخلاق الشعوب الحسنة و قد يفسدها أو يمحيها مع طول المدة”.
يشعر أن الكلام موجه اليه و إلى شعبه فالذباب الإلكتروني لكل فريق يتبادل السباب و الشتم و التنابز و الاتهامات و الشعب البسيط تائه لا يدري أين الحقيقة. يتساءل بينه و بين نفسه هل هذه هي الديموقراطية التي طالما حلم بها.. هل تتجشّأ الديموقراطية هذا الكم الهائل من البذاءة و القرف؟ هل الديمقراطية مسار أم ممارسة؟ كل ما طالعه و عاينه في البلدان الغربية يؤكد أن للديموقراطية قواعد تُطبّق بقوة القانون أولا ثم ثم تتحوّل إلى ممارسات و ثقافة و أعراف.
لكن هل يمكن أن نطلق على ما نعيشه في بلادنا اسم ديمقراطية و هي القائمة على الصراع و التشويه و الفوضى و المحاباة و التمييز و ” الأكتاف ” و التحيل على القانون و انعدام المحاسبة و على مبدأ ” حوت ياكل حوت و قليل الجهد يموت” هو يدرك أنه يعيش زمن التفاهة و يشجع عالم التفاهة .. لكنه لم يستطع التخلص منه فهو وسيلته في الهروب و النسيان، نسيان بطالته المقنعة و اشتغاله في مجال بعيد عن اختصاصه و بأجر أقل من الأجر الأدنى القانوني…
يجد نفسه منساقا وراء شاشة حاسوبه ساخرا من بوق عبير أو خوذتها أو متندرا بلغة قيس و رسائله أو متفكّها بأخبار الصاروخ الصيني أو باحثا عن تسريبات الخياري الليلية أو مركزا مع طقم أسنان الغنوشي أو ” ليفتينغ” صهره، أو متسائلا مع جموع المتفرجين عمن قتل مريم… هو يشعر اليوم أكثر من السابق أنّ هذه التكنولوجيا و الوسائط الحديثة صارت نقمة عليه و على شعبه… هو يدرك أن دوره في الميدان على الأرض و أن الصراعات الحقيقة لا تُدار من وراء الشاشات و أن البناء الحقيقي لا يكون بالسخرية و الضحك و” التنبير” الإلكتروني بل بكشف الإخلالات و رفض النقائص و اقتراح البدائل و فرضها..
و لكنّه يدرك أيضا أن الحكومة في هذه النقطة بالذات تميزت بذكاء خارق فلم تُغلق المواقع و لم تقطع الانترنت و سمحت للجميع بحرّية الكلام … فمن أنجع وسائل تثبيت الدكتاتورية الحديثة، إعطاء الشعوب الحرية المطلقة في الثرثرة لتتسلّى بها وتُبْطِل بنفسها أيّ مجهود إضافي للوصول إلى الديمقراطية في صيغتها المكتملة … و بسابق إضمار و إصرار من الحكومات تحلّ الفوضى و يتسابق الناس لاستضعاف الدولة و التمعش منها و التمتع بغياب القانون… و هذا الشعور الشعبي بالتفوق على الدولة و الاستقواء عليها هو شعور مخيف يُضعف لدى الناس كل رغبة في الفعل و التأسيس و يكسر كل قدرة على الثورة و التغيير.
كم يودّ أن يخرج إلى الشارع معترضا على مهزلة القرارات التي تتخذها الحكومة لمواجهة وباء الكورونا، أن يهزّ كتفي رفيقه في العمل ليبين له خطورة المفاوضات التي تجريها الحكومة مع صندوق النقد الدولي و ما ستقدم عليه من إجراءات ستزيد من سحق المسحوقين و تفقير المفقرين و تهميش المهمشين ، أن يصرخ وسط الحافلة أو الميترو مُندّدا باختلاس التلاقيح و الاستيلاء على حق المرضى و المستضعفين، أن يقف في باب أحد المستشفيات مطالبا بحق الأطباء في ظروف عمل أفضل، أن يُعطّل موكب سير أحد المسؤولين ليحتجّ على حفر و مطبات بالطريق، أن يصعد إلى أعلى الساعة في شارع الحبيب بورقيبة و يُشْهِد تمثالي بورقيبة و ابن خلدون على فساد النظام التعليمي و الصحي و على اختراق الأمن و القضاء و تخلّف الإدارة و فساد الإعلام .. ،
أن ينظر في عيني رئيس الحكومة ليقول : ما هكذا تُدار البلاد يا ابن الإدارة، لن ينفعك حزامك الناسف ساعة يجوع الشعب … ، أن يقف بوجه رئيس البرلمان ليقول : ارحل أنت و أتباعك و خرابك ، ارحل أنت و أفكارك الهدامة و خططك المدمرة ، أن يهزّ رأس رئيس الجمهورية ليقول : استيقظ سيدي الرئيس و عد إلى كوكبنا اهتم لشؤوننا و آلامنا و انس أمر الصلاحيات و الشرعيات فلا شرعية إلا شرعية الواقع و الميدان و ما تحققه للشعب في عهدك السعيد … كم يودّ لو يستعير من حنبعل إرادته و من حشاد عزيمته و من بورڨيبة فصاحته ليصيح بوجه الشعب… فيق… راهم باش يجوعوك و يقتلوك و لن ينفعك الاصطفاف مع أيّ فريق… فيق.. فالفوضى لن تخلّف سوى الانهيار… فيق.. قبل أن تبكي على حاضرك و تتحسر على ماضيك…
يتساءل.. و يحلم… ثم يعود إلى العبث بشاشة حاسوبه باحثا عن آخر طرفة تندر بها أصدقاؤه على حق الملح… و ” حتى حد ما يفيق”