يبدو أن حملات التجييش ضد رجال التعليم التي تكاثرت في السنين الأخيرة بمناسبة كل تحرك اجتماعي، و خاصة منذ إطلالة وزير شعبوي رديء و عبارته المأثورة: (الأستاذ كرّاي، و التلميذ ملاّك) … يبدو أن هذه الموجة راحت تعطي ثمرها الخبيث و تتم ترجمتها إلى اعتداءات بدنية “أبطالها” أولياء و تلاميذ.
و تأتي حادثة معهد الزهراء في هذا السياق الشرّير الذي يبيح كرامة و سلامة و حتى دم المدرّس … إذ عمد تلميذ إلى تخريب جسد أستاذه طعنا بالسكين ثم محاولة تشريحه عن طريق ساطور … و قد تناثرت دماء المربي الذي هرب بحرارة الروح إن بقيت فيه روح، على محيط المعهد و إسفلت الشوارع القريبة … ما هذا؟ هل نحن في منظومة تربوية أم في أراضي داعش؟ و هل نغلق مدارسنا و معاهدنا الثانوية و جامعاتنا، أم نخصص مرافقة أمنية لكل أستاذ حتى نكمل سنة دراسية لم تبدأ إلا منذ أقل من شهرين؟
سيكثر الحديث ـ و قد بدأ بعدُ ـ عن تأمين المؤسسات التربوية، و هذا حق … و سيطالب عديدون بتسليط أقسى و أقصى عقاب على التلميذ المعتدي، و هذا حق… و ستخرج دعوات إلى تشديد العقوبات على كل من يتطاول على رجل تعليم أو يعتدي عليه، و هذا أيضا حق … و لكن ذلك و إن سينجح في إخماد نار اليوم و تضميد جرح مائة ألف أستاذ ، عدا البقية من رجال التعليم و نسائه … و قبل ذلك في تضميد الأثر النفساني الصعب لأستاذ الزهراء الذي نرجو له الشفاء … قد يفيد ذلك مؤقتا، و لكن …
في العمق، لا بد من معالجة منظومتنا التربوية منذ الآن و دون إبطاء … محتوى التعليم و البرامج و ما يلزمها من تطوير، تلك مهمة أهل مكة و ما أنا من أهل مكة … و لكن منظومة التربية في نظري هي أشمل بكثير من جدران القسم و ما يقال أو يُكتب داخلها أو لأجلها … التربية هي المدرسة و لكن أيضا:
1ـ الأسرة التي تفككت و تذررت (من الذرة و الذُرّية معا) و أصبح آخر اهتمامها سلوك أبنائها و تحضّرهم و احترامهم للآخر، و للكبار، و للطريق، و للبيئة، و للغة اللائقة، و للهندام المحترم … و صار صغارها يتحكمون في كبارها، و نزوات الأطفال أوامر، و انتقلت من “الطفل الملك” إلى الطفل أمير المؤمنين و صاحب المملكة التونسية.
2ـ الشارع الذي صار مرتعا للقباحات بجميع أشكالها … من بذاءات لفظية عالية الصوت لشبّان لا سلطان عليهم، إلى بذاءات “فنية” على حيطان الطريق العام و حتى فوق علامات المرور، إلى همجيات مختلفة لا يهتم بها بوليس و لا أي من رموز السلطة، إلى مقاه مفتوحة لمن هم دون السن القانونية و هم سائبون بلا أولياء أمر كالكلاب الضالة.
3ـ وسائل الإعلام التي صارت وسائل إظلام … حيث في رمضان و في غير رمضان، تذاع مسلسلات تصوّر أبطالها في مظهر شواذّ و سكّيرين و مدمنين و مومسات و قتلة حتى لآبائهم … و كثيرة فيها حالات الإفلات من العقاب … دون الحديث عن طغيان الحوارات السوقية و لغة الشتائم و “الغشة” و نشر قيم التمرد على القانون و الإثراء بكل السبل … في المسلسلات و أيضا في نصوص الأغاني و نقاشات المذيعين و كرونيكورات السطو على مهنة الصحافة.
مطلوب عودة اهتمام الدولة الشديد بمن سمّاهم سان جوست “أبناء الجمهورية”، أي ناشئتنا و لو داخل أسرهم … الطفل مِلك للبلاد بكاملها و ليس قطعة أثاث خاصة تحتكرها أسرة … و الذي سيعاني من انحرافه طول العمر، هو المجتمع لا تلك العائلة غير المقدسة … و من حق الدولة ـ عبر فرق كفأة من المرشدات الاجتماعيات ـ متابعة الظروف التي يتربّى فيها الأطفال داخل عائلاتهم … و يكون ذلك فرصة لتهذيب سلوكات أسرية كثيرة خاطئة أفسدنا بها أجيالا و ما نزال.
مطلوب تطبيق القانون بصرامة على من يعتدي على المرافق العامة و يلطّخها كتابة أو رسما أو تشويها أو إلقاء نفايات في الطريق العمومي، فضلا عن التخريب الوندالي الذي نرى آثاره كل يوم و نأكلها في عظامنا و نسكت … على أجهزة الشرطة (بلدية كانت أو بيئية أو غيرها) أن تعامل مرتكبي هذه المخالفات معاملة المجرمين، و أن تبحث عنهم بحثها في جريمة …
مطلوب ردع من يتفوه بكلام بذيء على مسمع من العموم، و تُراعى ظروف التشديد إن طالت الشتيمة امرأة أو شخصا كبيرا في السن … و القانون موجود و لا مزيد عليه، يكفي فقط التنفيذ …
مطلوب تسليط أقصى العقوبات على العاقّين من الأبناء، خصوصا أولئك الذين يعنّفون أبا أو أمّا أو كليهما … حتى لو تنازل الوالدان عن حقهما كما يحصل عادة و تحت تأثير العمى العاطفي.
مطلوب قطع دابر المخدرات في هذه البلاد (و خاصة بالأوساط التلمذية) و قد تأخر ذلك كثيرا … لا يكفي أن تُحجز كمية حشيش هنا، و باكوات زطلة هناك، و حرابش ممنوعة هنالك، حتى نقول كافحنا المخدرات … لقد اصبحنا شبيهين ببعض ربوع أمريكا اللاتينية و آسيا … مع العلم بأنه في جنوب شرقي آسيا، يصل ترويج المخدرات بصاحبه إلى الإعدام … و قد قُضي بصفة شبه تامة على هذه الآفة بفضل ذلك الإجراء … و لا أحد هناك تُسمع له شفاعة، و لو كان بابا الفاتيكان، و لو كانت بشرى الحاج حميدة !
مطلوب أخيرا لجم جماح وسائل إعلامنا غير المسؤولة … و هنا لا أفهم كيف تتشبث “الهايكا” بمن رخصته خالصة الأجر أم غير خالصة، و تترك أولاد مفيدة يستعرضون الوشام المخنّث على أبدانهم، و ينجبون خارج إطار الزواج، و يدغرون أبا أوّل، و يخنقون أبا ثانيا، و يولد كبيرهم من سِفاح … و لا أفهم خاصة كيف لا تكون لنا أجهزة رقابة على المصنفات الفنية كسائر البلاد المتحضرة … و لا توجد خطوط حمراء دونها يُمنع البث من أصله، و لا يقع الاكتفاء بعلامة ( – 18) مائعة … أجهزة رقابة عمادها الأساس متخصصون في علوم التربية و القانون، و حتى التربية المدنية و الدينية (لم لا؟) … لا موظفون كل همّهم مرتّب قار لا بأس من تدويره من حين لآخر، برشوة مجزية…
و بعد هذا … هل ما زلت متمسكا بالحوار مع الشباب ـ شباب السواطير ـ يا سي قيس؟