وأنا أقول: عندما يكون المجتمع معتلا حتى نخاع عظمه، هل يعقل أن يكون أخلاقيّا؟!!
إذن، أصل العلة هو انعدام الأخلاق!
ومالم نعالج الجذر لن يكون هناك أمل في الشفاء….مادامت الثورة هي حرق مراحل، لا أستطيع أن أضع بيضة واحدة في سلتها!!!
فبناء جهاز أخلاقي يتم عبر مراحل طويلة وشاقة، وحرق أية مرحلة يساهم في تشويه ذلك البناء…
………..
تحضرني هنا قصة قرأتها عن رئيس وزراء بريطانيا إبان الحرب العالمية الثانية ولسون تشرشل…
يحكى أنه كان وزعماء “الحلفاء” مجتمعين في مقهى لمناقشة خطة الحرب …من باب الطرفة نظر أحدهم إلى حوض للسمك الصغير بجوار طاولتهم، وقال:تعالوا نحاول مسك هذه السمكة ولو نجحنا سنربح الحرب…فأخذ كل منهم يحاول بدوره أن يمسك السمكة دون جدوى.
عندما وصل الدور إلى تشرشل، وكان معروفا بدهائه وروح النكتة، أخذ ملعقة القهوة الصغيرة وراح ينقل بها الماء الذي تسبح به السمكة، ويلقيه خارج الحوض…ولمّا استهجن الجميع تصرفه، رد بهدوء: تلك هي الطريقة الأسرع لتفريغ الحوض من الماء، ومن ثمّ مسك السمكة!!
وأنا دائما أقول: في أغلب الأحيان وبعد فوات الأوان، تكتشف أنه ولكي تختصر الوقت كان عليك أن تأخذ الطريق الأطول!
لا تحاول أن تعالج جرحا كبيرا وعميقا ونازفا، نجم عن قذيفة مدفع، بلصاقة الجروح التي هي أصغر من بنصرك!
تلك الأمة هي أمة مشوهة خُلقا وخَلقا….تشوهت ببطء وبثبات على مدى 1400 سنة، ووصلت إلى مرحلة لم تعد تملك أبسط المقومات التي يجب أن تمتلكها أية أمة لتستمر….لا يمكن أن تُعالج كوارثها بلصاقة جروح، فطريق العلاج طويل جدا وشاق جدا جدا، ولذلك لم ـ ولن تنجح ثورة ـ تشتعل على أراضيها.
من يقوم بالثورة ليس مؤهلا أخلاقيّا أكثر ممن كان سبب اندلاع تلك الثورة!
لذلك، سيقتصر نجاح أية ثورة على استبدال طاغية بطاغية آخر، طالما الجميع ينهل من نفس المنبع!
هذه الأمة تحتاج إلى ثورة أخلاقية تبدأ بمائة مليون بلدوزر، كي تجرف أكوام القمامة المتراكمة عبر الزمن في تراثها، وتلقي بها في مزبلة التاريخ.
………..
لم تستطع أمة في تاريخ البشرية أن ترتفع بمستوى شعبها حضاريا وإنسانيا، إلا بعد أن رسمت حدا واضحا وصريحا بين الدين و الأخلاق!
ذلك الحدّ الذي تجسّده عبارة لمفكر أمريكي لم أعد أذكر اسمه، عندما قال:
Morality is doing what is right regardless of what you are toldReligion is doing what you are told regardless of what is right
(الأخلاق هي أن تفعل الصحيح بغض النظر عمّا قالوا لك، والدين هو أن تفعل ما قالوا لك، بغض النظر عن كونه صحيحا أم لا).
وبما أن الإنسانية تعني أن تفعل الصحيح، استطاعت تلك الأمم أن تحجّم أديانها،وتلتزم بشيفرتها الأخلاقية.حجرت الأديان في معابدها وجحور أتباعها، وبنت سلّما للأخلاق عانق رحاب السماء،فازدهر كل شيء وانتعش الإنسان عموما.بينما في الوقت نفسه، ظلت تحترم حق الإنسان في أن يتبع دينا، شرط أن يستخدمه كما يستخدم الملح في طعامه، قليله يحافظ على سلامة الجسد، وكثيره يسلب العافية!
………..
في القرن الواحد والعشرين يخرج عليك شيخ واعظا ومؤكدا أن الله يشرّع الاستمتاع بالرضيعة،ومص حلمات الموظفة، ونكاح الميتة، ونكاح أم الزوجة في حال مرض الزوجة، ونكاح البنت بالزنى، ونكاح الجهاد، وسبي النساء والغزو وسرقة الغنائم، وضرب النساء وتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف.بينما يغط الجميع في سبات عميق، ولا من أحد يحتج على وصم تلك الأمة،وتلطيخ سمعتها بهذا القبح!
على العكس تماما، يقف على يسار الشيخ رفيقه الـ “ليبرالي” التقدمي، متظاهرا بأنه لا يسمع ما يقال ولا يرى ما يُعمل به، ليشتم أمريكا ويعلق كل قاذوراته وفشله على شماعة الآخرين!
الأول يعدك بالجنة في السماء فتموت كي تراها، والثاني يعدك بالجنة على الأرض فتموت قبل أن تراها.
إنها الطريقة الأسهل ليهرب اللصوص والجبناء من مواجهة مسؤولياتهم.نعم، ليس أسهل من أن تلعب دور الضحية، وتزعق أن الذئب قد داهم الحظيرة،بينما “حراس” الحظيرة قد نهشوا لحم القطيع وسرقوا جلوده وكسروا عظامه، ولم يتركوا للمخدّرين بالوعظ إلا بعره!
لو لم تكن أمريكا موجودة لخلقوا أمريكا أخرى….فأمريكا “تبرر” ضحالة إنجازاتهم، وقذارة شوارعهم، وبؤس نسائهم،وعنانة رجالهم، وقهر أطفالهم….دائما يبحث الشرير في وعيه وفي ساحة اللاوعي عنده، يبحث عن مبررلشروره!وليس من مهمة أسهل عليه من خلق هذه المبررات،وخصوصا تلك التي تأتي ممهورة بختم “الله”!……لقد جحّشوا هذه الأمة عندما أقنعوها بأن الدين هو الأخلاق، وبأن الأخلاق أن تفعل ما يقولونه لك.والأسوأ من هذا وذاك، أن غيرك مسؤول عن جحشنتك!
………..
ليس من وسيلة لفكّ الجحشنة، إلا أن نستعير ملعقة تشرشل كي نجفف المستنقع، ونخرج السمكة قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة.وذلك بعد أن نحطّم كل الميكرفونات، ونضرب بعرض الحائط كل الثورات والمخططين لها من أشباه الرجال…
فردم المستنقعات ودفن الخرافات فيها هو الثورة الحقيقية، وهو أقصر طريق لتعيش حياة جديرة بأن تعاش!!