جور نار

المستوطنة

نشرت

في

جمل الصحراء، الخلفية, صحراء, جمل, اللاما صورة الخلفية للتحميل مجانا

لن نغفر لأجدادنا ما تركوه لنا من فقر وجهل وأعباء تخلّف تنوء بها الجبال … ذات يوم قالت نوّارة نجم لأبيها الشاعر: لقد تركتني رضيعة ثم طفلة ثم شابة ورحت تنطّ بين السجون وصالونات الشعر ومدرّجات الجامعات، غير عابئ بما يمكن أن أصير أو يقع لي… بحق السماء لمَ أنجبتني؟

<strong>عبد القادر المقري<strong>

الحكاية حقيقية، ويقال إن رفيق درب الشيخ إمام وجم ولم يحر جوابا … وبعد مدة صاغ سؤالها مع رد (أو تبرير) في أغنية يفتتح بها مسلسل “حضرة المتهم أبي” … هذا مجرّد مثال لا يمسّ من تقديرنا للشاعر العظيم وقضايانا التي حملها شامخا على كتفيه … نتوقف فقط عند معنى الأبوّة والمسؤولية … فقط، فقط … ما أصعب أن يسألك ابنك عن تقصير أو رهن لمصيره أو لامبالاة تامة بأحواله عامين أو عشرة أو ثلاثين … أجدادنا اليوم نترحّم عليهم بكل البِرّ ونذكر زمنهم بالخير وفينا من يفني عمره مستعرضا أمجادا وبطولات خوال … أما أنا وحين أرى ما يحصل لفلسطين وما يأتي من عربدة بضعة كلاب ضالة وما يفوه به عجوز أمريكي وزوج عجوز فرنسية وخادم هندي لدولة بريطانيّة عجوز هي الأخرى … عندما أرى وأسمع الإهانة والشماتة وقلة الحياء علنا من قادة دول في حقّنا، لا أجد لأجدادنا مبررا لكي أفتخر بهم أو أقول فيهم خيرا … وأسكت هنا حتى لا أنهال على ذكرهم بما لا يستطاب …

الحديث عن الأجداد لا يعني جدك للأب أو الأم بالضرورة … بل سلسالا من الأسلاف على مدى ألف سنة وأكثر، قل فقط في القرنين الأخيرين … ولا يستثنينا نحن أجداد أجيال الغد … فقد أنجزت الدول الغربية (وحتى الشرقية القصوى) ثورتها الصناعية الأولى والثانية، وترسخت لديها مؤسسات ديمقراطية ودول قانون ونشر واسع للعلم والتعليم والبحث العلمي، وتحررت دول جنوب عدة منها دول عربية كمصر … فيما كانت دولة عربية مترامية الأطراف كالسعودية خالية من الغزو الأجنبي وحتى العثمانيون انهزموا واستراحت منهم … ومع ذلك يقي التواكل والتخلف والعجز عن بناء مؤسسات عصرية ودولة متينة الأركان، بقي ذلك عندنا قائما جاثما نائما … حتى مشاريع النهضة التي طرحها بعض الرواد مطلع ذلك القرن، واعتمدتها في القاهرة ثورة 19 … حتى هذه وئدت سريعا بظهور تيارات فكرية قروسطية تكفّر العصر وترجع إلى أنماط القرن الأول للهجرة وتدعو لإحياء الخلافة … وعرفت دعما عجيبا ونموّا فلكيّا عصف بأيّ أمل في تحديث وخلق قوّة ومضاهاة مردة العصر …

حتى الاستقلالات التي حصلت بعد ثلاثة عقود، أي مع بشائر الخمسينات … حتى هذه لم تزد عن كونها قشور فرح ووهما بالسيادة، وسرعان ما تكشّفت عن كيانات عربية متنافسة في الصغارة والفقر والاستبداد والفساد وعبادة زعماء أنصاف آلهة في كل بلد … بل واتضح أن الشعوب خرجت من الاستعمار لتقع في شراك التبعية، وهاتوا بلدا عربيا واحدا لم يبق على أوثق الصلات بمحتلّه السابق … فرنسا، ، أنكلترا، إيطاليا وحتى إسبانيا … اقتصاديّا وثقافيا وطبّيا، نعم وكم من زعيم “مستقلّ” يهرع به أهله لأقلّ وعكة إلى مستشفيات باريس ولندن وروما … ولم تتغيّر المعادلة كثيرا بحلول زائريْن جديديْن وقتها، واشنطن إلى اليوم وموسكو في زمن من الأزمان …

كل هذا والإذاعات تردد عشرات الأناشيد الحماسية في تواريخ تتبدّل بحسب تبدّل الزعماء واختيارهم على أيام سعد تلائم جلوسهم على العرش … أناشيد حماسية قوامها طبعا تأليه صاحب السلطة على أنه خير من تسعى به قدم … والفخار بهذا الوطن الذي تحرر وأطرد الاستعمار مع الشتائم المناسبة لهذا الاستعمار الذي انتصرنا عليه … والتباهي بحالة الازدهار التي تعمّ تلك البلاد منذ تولّي الزعيم الملهم دفّة قيادتها … والمحافل الدولية التي قتلها الانبهار بمسيرة التنمية واللحاق بركب العالم المتقدّم … إلخ، إلخ … وتصدّق غالبا ما يقال في إذاعة بلادك عن بلادك، ولكن يصادف أن تسمع إداعات شقيقة أخرى، أو مراسلة من دولة شقيقة تبثها إذاعتك الوطنية … فتفغر فاك حين تلقط ما يقال عن زعيمهم المفدّى وأحوالهم الرخيّة هناك، فإذا به نسخة بالألوان عمّا يذاع عن زعيمك وأحوالك هنا …

تصدّق وتمشي مزهوّ الصدر والكبرياء … ثمّ تشكّ قليلا جرّاء التشابه الذي ذكرناه سالفا، ثمّ يزيد شكّك حين تطّلع على مصادر أجنبية محايدة تصفك وتصف أجوارك وأشقّاءك بأنكم جميعا عالم ثالث … وتصنّفك وتصنّفهم ضمن الدول التي تعتاش على القروض والمساعدات، أو على ريع ثروة باطنية لا فضل لإنسان فيها، أو على تصدير اليد العاملة الرخيصة، أوعلى تحويلات المهاجرين، أو على سياحة فقراء أوروبا، أو على ما تجود به النخلة والزيتونة كما كان منذ ألفي سنة … وتصنّف جامعاتك وجامعات أشقائك خارج أي تصنيف دولي محترم، لا ضمن الخمسمائة ولا صمن الألف … مهما ادّعت إذاعتك وتلفزتك ومهما تنافخ وزراء تربيتك وتعليمك العالي … نفس الشيء بالنسبة إلى منظومتك الصحية، ونسيجك الصناعي، وفلاحتك، وثقافتك التي لا يسمع بها أحد كيلومترا واحدا خارج حدودك وحدود أقربائك في أحسن الأحوال … ويتعرّى كل شيء بالكامل حين تحصل أزمة (دبلوماسية خاصة) مع الدول الكبرى، فإذا بقرصة أذن واحدة كقطع النزويد بالقمح مثلا، تُدخل بلادك في مذلّة بلا مثيل …

في الأثناء تحررت شعوب كثيرة، في أوّل القرن العشرين وأيضا في وسطه … تحررت فعلا لا خطابة وبنت نفسها بجدّ وتحوّلت إلى نمور وأسود رغم أنّها استقلّت معك وربما بعدك … وفيها دول مثل ماليزيا بدأت نهضتها بعد استقلالنا بربع قرن أي في الثمانينات … وفيها دول مثل كوريا الجنوبية هي عبارة عن نصف دولة … وفيها دول كسنغافورة هي عبارة عن جزيرة مثل جربة، ولكن دخلها الوطني الخام يفوق البلاد العربية مجتمعة … بلا بترول ولا غاز ولا مرجان ولا ترتان … وتحولت إلى دول منيعة لا يقدر أحد على إزعاجها أو إزعاج أجوارها وأشقائها … ويكفي التذكير بما حصل من أزمة ظرفية عاشها اقتصاد دول “آسيان” (جنوب شرقي آسيا) سنة 1997 … إذ ركب الرعب عواصم أوروبية وغربية عظمى، والسبب البطالة التي هددت مئات آلاف العمّال الغربيين الذين تشغّلهم مصانع ومتاجر وماركات الدول الآسياوية تلك !

وفي الأثناء أيضا … تسلل الذين لا أسمّيهم إلى فلسطين فردا ففردا، مجموعة فمجموعة، باخرة فباخرة، واغتصبوا أرضا شقيقة عزيزة وكوّنوا من عصاباتهم جيشا، ومن جيشهم دولة، ومن دولتهم قوّة هزمتنا في كل المعارك رغم حسن نوايانا وعدالة قضيتنا … طبعا هناك دعم دولي لهم رهيب، وهناك مؤامرة كبرى تحاك منذ مؤتمر بال، ومنذ سايكس بيكو، ومنذ وعد بلفور، ومنذ قرار التقسيم ومنذ ومنذ ومنذ … ولكن …

هل نحن (أو بعض مِن “نحن”) غرباء تماما عن تلك المؤامرات أبرياء منها؟ … هل الدعم الخارجي وحده يمكن أن يرجّح قوة على قوّة؟ … هل هناك ما يمنع أن يكون لك نفوذ في الخارج يعادل على الأقلّ نفوذهم؟ هل لهم مال وليس لك مال؟ هل لهم جاليات مبثوثة في كبريات العواصم وليست لك جاليات هناك؟ أسأل ثانيا … هل حالهم الداخلي، مستوى مؤسساتهم، قيمة جامعاتهم، أقلّ أو أكثر أو في مستوى ما هو عندنا؟ … أخاف أن أجيب فتنهال على الرأس حجارة مولْوِلة زاعقة يتطاير منها الشرر … شرر خير أمة أخرجت للناس …

والسؤال الأخير … لماذا وكيف ومتى ينتهي تفوّق “مستوطنة” على وطن بريح لا تكاد تغرب عنه الشمس؟

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version