صفحة كاملة في التاريخ توشك أن تطوى بكل توازناتها وحساباتها وتحولاتها .بعد الحرب العالمية الثانية انقسم العالم أيديولوجياً واستراتيجياً واقتصادياً .تصارع على النفوذ قطبان أعظمان هما الاتحاد السوفييتى والولايات المتحدة فيما يعرف بـ”الحرب الباردة”، التي انتهت بانهيار جدار برلين وتقوض حلف “وارسو” ــ الذي كان يقابل حلف “الناتو” على الجانب الآخر ...
في سنوات ما بين نهاية الحرب العالمية الثانية وانهيار جدار برلين شمل نفوذ الاتحاد السوفييتي شرقي أوروبا، التي اجتاحها الجيش الأحمر، والشرق الأقصى، حيث انتصرت الثورة الصينية وحاربت الثورة الفيتنامية تحت الرايات نفسها، واصلاً إلى القارتين إفريقيا التي طلبت حركات تحريرها الاستقلال الوطني، و أمريكا اللاتينية التي رفعت سلاح حرب العصابات ضد الهيمنة الأمريكية ــ كما حدث فى كوبا .
لم يكن ممكناً أن يتعرض الاتحاد السوفييتي بحجم دوره وتأثيره لمثل الأزمة الحالية، أو أن تطالب دول مثل بريطانيا بطرده من مجلس الأمن ! إذا ما حدث مثل هذا السيناريو فإنها نهاية النظام الدولي بأسره ودخول العالم فى فوضى كاملة .هناك فارق جوهري بين الاستجابة للحقائق بلا معاندة وبين المغامرة بالحماقة .القضية ليست أن يحدث أو لا يحدث تغيير جوهري في بنية النظام الدولي .سوف يحدث مثل هذا التغيير، لكن السؤال كيف ؟
عند انهيار جدار برلين تجاورت فكرتان متناقضتان عند مطلع تسعينات القرن الماضي
الأولى ــ أن “نهاية التاريخ” قد حلت وأن الليبرالية الغربية سوف تفرض منطقها وهيمنتها على العالم بأسره، والقرن الحادي والعشرون سوف يكون كما سلفه أمريكيا .
والثانية ــ أن مستقبلاً مماثلاً لما حدث للاتحاد السوفييتي سوف تتعرض له القوة الأمريكية وظل السؤال معلقا: متى؟
على مدى أكثر من ثلاثين سنة من القيادة الأمريكية المنفردة استبيحت دول وقضايا، هنا فى العالم العربي أكثر من غيره، غير أن الاستباحة امتدت إلى روسيا نفسها، وريثة الاتحاد السوفييتي، جرى الاستهتار بها على نحو فادح والتنكر لكل الالتزامات التى قطعها الغرب على نفسه مقابل إعادة توحيد الألمانيتين … قضية “بوتين” صحيحة وعادلة فى طلب الأمن لبلده، ألا يتمركز حلف “الناتو” فى محيطه الأمني الاستراتيجي، ألا تنصب الصواريخ المتقدمة فيه، أو ألا تعمل أوكرانيا على امتلاك أسلحة نووية بخبرة متوارثة من الاتحاد السوفييتي .
بصورة أو أخرى جرى استدراجه للدخول في مواجهة عسكرية مفتوحة حتى تكون مستنقعاً للقوة الروسية يستنزفها ويمنع بحقائق القوة أية فرصة لتحالف ممكن مع التنين الصيني الصاعد والحذر بالوقت نفسه .
في الإرث السياسي الروسي أوكرانيا ليست دولة عادية، فقد نشأت في كنف الاتحاد السوفييتي السابق، ضمت إليها أراضي جديدة، روسية وغير روسية، وأخذت حجماً استثنائياً في استراتيجيته السياسية والعسكرية .روسيا الحالية ليست الاتحاد السوفييتي السابق .العالم اختلف تماماً وجذرياً عما كان عليه عقب الحرب العالمية الأولى .منطق الثورة السوفييتية يختلف تماماً وجذرياً عن منطق الدولة الحالية أيديولوجياً وفكرياً وسياسياً .أوكرانيا لم تعد على ذات الوضع، الذي كانت عليه في تلك الحقبة البعيدة عند اندلاع الثورة البلشفية عام (1917).لكل عصر حساباته وتوازناته.
من دواعي غضب “بوتين” أن الغرب لم يتقبل دمج روسيا بعد نهاية الحرب الباردة في منظوماته، أن تكون عضواً عاملاً في الاتحاد الأوروبي، رغم تخليها عن عقيدتها الماركسية، ولا تقبل انضمامها إلى حلف “الناتو”، الذي يوصف بالادعاء أنه “قوة محبة للسلام” رغم جرائم الحرب البشعة التي ارتكبها في يوغسلافيا السابقة وأفغانستان والعراق وليبيا .
رغم كل التحولات في بنية النظام الدولي، ظلت روسيا عدواً محتملاً في الاستراتيجيات الغربية حتى وصلنا إلى الصدام المفتوح .عنوان الأزمة الحالية: أوكرانيا.. وجوهرها: مستقبل النظام الدولي .الحقائق الرئيسية سوف تأخذ وقتها حتى تتكشف و يستبين كامل ملامحها في عالم يتغير .نحن أمام المعركة الأخيرة للقوى المتنفذة في النظام الدولي المتهالك، وكلفتها سوف تكون باهظة على العالم بأسره .