عشية البارحة، شاهدت خطفا على إحدى قنواتنا شيئا من ريبورتاج يحكي عن التكنولوجيا و يتحدث خاصة مع مبدعين تونسيين … فيهم جامعيون، و باعثو مشاريع، و عائدون من المهجر، و مختصو برمجة، و مهندسو روبوتيك … و رأينا هناك كيف صُمِّمت تلك العباد الآلية (على حد فهمي الصفر) التي استعان بها الأمن أيام الحجر الصحي العامّ، و الأخرى التي وُضعت في مدخل مستشفى مامي لتمكين العائلات من زيارة مرضاها عن بُعد … و فيها، و فيها …
و الله شيء يعمل الكيف …
يعني في الوقت الذي ما من سياسي أو خبير أو دبّير يعتلي منبرا، إلا و يزعق في وجوهنا منذرا بعين حمراء: البلاد ذاهبة نحو الهاوية … الوضع كارثي … داخلون في حيط … لقد ضعنا … لقد أفلسنا … متنا… غُسِلنا … دُفنّا …
فنجيبه جماعيا و قد انتقل فزعه إلى قلوبنا أضعافا: إن شاء الله في رأسك يا وجه الغرابǃ
في الوقت الذي يزرع فيه سماسرة السلطة قناطير من بذور اليأس و العجز و البؤس و اللهاث و إخراج اللسان، تجد في وطنك من ما زال واقفا يبني و يقوم باكرا و يتوكل على المولى و يشتغل … و كلما انتهى من عمل يرفع رأسه للسماء داعيا بتعبير ميخائيل: “نحن نعزق و أنت ترزق يا كريم”…
أحد البُناة الطيبين ـ و هو أستاذ جامعي ـ قال إنه كان يعيش في المهجر و في ليلة تعطلت سيارته و وجد نفسه محاطا بالظلام و القفار و الوحدة … تحامل على نفسه و أصلح العطب، و لكنه في الطريق تساءل: تُرى لو ـ بدل السيارة ـ طرأ العطب عليّ و أنا في ديار الغربة؟ … و من يومها قرّر العودة إلى بلده الفقير الضرير، و لْنتقاسمْ فقرنا و نتدبّرْ أمرنا و نواجه مصيرنا معا … و ليكن ما يكن …
عودة قصيرة إلى خطباء الشؤم أعلاه، و ليسمحوا بأن نتهمهم بعدة تهم لن أذكر منها ـ لضيق الوقت ـ إلا الكذب… إذ لو كانت البلاد وصلت إلى ما تقولون، لفررتم كالجرابع من سفينتنا عند أوّل هزّة … لذلك أنا مطمئنّ البال، و الضمان الوحيد أنه ما دام الجبناء حالّين بيننا فلا وجود لخوف … و ما دام اللصوص يتجولون عندنا فلا وجود لإفلاس … و مادام الخونة يملؤون أفقنا، فمعنى هذا أنه ما زال لدينا ما يُنتَج و ما يُنهَب و ما يهرَّب و ما يستحق التآمر عليه …
بلادنا عامرة بشباب لا ترينا منه عموم التلفزات سوى الحارقين و اليائسين و المنحرفين و هؤلاء هم نتاج ماذا لولا ساسة الجهل و العفن الذين يتولّون مقاديرنا؟ … ثم كم عدد هؤلاء الفتية الضائعين و كم نسبتهم؟ و خاصة إلى كم يريد حُكّامنا أن يرفعوا هذه النسبة حتى تخلو لهم البلاد من أهاليها تماما؟
في تونس اليوم آلاف من هذه الشركات الصغرى النشطة جدا و المسماة “ستارت آب”، و يديرها خرّيجو جامعاتنا و أساتذتهم باقتدار لا يوجد عند رؤساء مديرين عامين أسماؤهم كالطبل … و بدل التسكّع أمام أرصفة الولايات أو التباكي على شغل فارغ في إدارة مكتظّة، ها هم يشمّرون على أيديهم و يؤسسون و يكسبون بعرقهم مالا و كرامة … دون انتظار منّة من أحد … و يحققون نتائج و أرباحا لا تصل إليها شركاتنا العمومية الكبرى التي هوى عليها المحاسيب و الأصهار … فتركوها قاعا صفصفا.
نعم، و لكن …
هذه الشركات الصغرى كان يمكن أن تكون بمئات الآلاف، و شبابها كان يمكن أن يكون بالملايين، و إنتاجاتها كان يمكن أن تغنينا عن التداين و الاستعطاف و الوقوف الشحّاذ أمام البنوك الدولية و الأمم الكبرى … و عن القبول بشروط عمياء طرشاء تسلخ منك الجلد كي يعيش العظم …
كان ذلك ممكنا، لولا تلك الأعشاش من مسؤولي الصف الأوّل و الثاني و الثالث في الدولة … بدايتهم سياسيّ عنّين و آخرهم موظف تنفيذ مسكين … هذه الفئة هي التي تسدّ الهواء على طموح شبابنا، و تقتل مشاريعهم و أحلامهم بلا مبالاة مذهلة … و تغرقهم في طلاسم متضاربة من أشباه قوانين و مناشير و فصول و فقرات و مطّات … هي في معظمها أساس لدولة المافيا لا دولة القانون كما يتشدّق أكثر من متشدّق …
سنعود إليهم بالتفصيل كيف يخيطون تلك الملابس القانونية المضحكة المبكية و أين و لماذا … و بعد ذلك، سنرى أنهم و مؤسساتهم نحترمهم جدّا إذا عاملناهم فقط بالحجر …
و الحجر هنا لا علاقة له بالحجر الصحي و لا البروتوكولي …