كلّ نار

المندرة و الصابة

نشرت

في

أمطرت الدنيا هذه الأيام، و ما تزال تمطر …

لن أقول غزلا في المطر و أنشودة المطر … فالوقت الذي نعيشه قتل الغزل و أباد الولهانين و لم يعد في المشهد ما يستحق أن نقول عنه كلمة خير، و لو من باب جبر الخواطر …

<strong>عبد القادر المقري<strong>

و لكن ماذا تريد؟ … أصبحنا مثل آلات التسجيل المبرمجة نعيد على أسماع بعضنا البعض نفس الجمل كلما طرأ طارئ … مطر مارس ذهب خالص، و في “برير” (أفريل) تخرج السنبلة من قاع البير، و بعد الحسوم بأربعين يوما بإمكانك نزع الأدباش و ممارسة فن العوم إلخ …

ما زلنا نتبرّك بنزول الأمطار رغم كل شيء، و القصد أساسا أن نرسي على موسم حسن و حصاد وفير و يبتعد عنا شبح المجاعات الذي رافق الأجداد و أجداد الأجداد زمنا طويلا دوّنته الكتب … نفرح بالمطر و نستبشر به و حتى مذيع النشرة الجوية تتهلل أساريره و يحمد الله على “الغيث النافع” حتى لو أدى ذلك إلى انهيار بيوت و تشرّد عائلات …

تفيض الدنيا و تجرف الأودية قرى بكاملها، و لكننا نفرح بالمطر … لأجل عيون الصابة.

تنقطع طرقات رئيسية و جهوية و فرعية و حتى شوارع و يتعطّل مرور و تتكدس مئات السيارات و معها تعوي مئات المنبهات لمدة ساعة ساعتين ثلاث … و لكننا نفرح بالمطر، لأجل عيون الصابة

تتراكم الطبعة و تطير أغطية بالوعات و تفترس تلاميذ و عاملات و مشاة من كل فئة … و لكننا نفرح بالمطر، لأجل عيون الصابة.

يقصّ الكهرباء عن أحيائنا من دون إنذار مسبق فننهي أشغالنا و دروسنا و باقي شؤوننا على ضوء شمعة أو نصف شمعة من بقايا آخر انقطاع … و لكننا نفرح بالمطر، لأجل عيون الصابة.

يتباطأ تدفق الإنترنت ثم يتوقف أوقاتا قد تطول و قد تقصر و لا معرفة لك بالفرق الزمني بين كل توقف و توقف … و يحصل ما يشبه التعذيب المبرح يتخلله دعاء على مكتشف هذه التكنولوجيا النعمة عند المتحضرين، المصيبة بالنقرس عند المتوحشين … و لكننا نفرح بالمطر، لأجل عيون الصابة.

تتراص الصفوف و المقاعد و الواقفون و الجالسون في أي مكان جماعي (محطة حافلات، مقهى، مخبزة، حانوت حلايبي) بالرغم عنهم تحت وابل خيطين من سماء لا يترك لك مجالا للتباعد … و بالرغم من مخاطر كورونا ذات المائتي سلالة كل منها أفتك من الأخرى …

 و لكننا نفرح بالمطر، لأجل عيون كاترين.

و في الأخير، و عندما يجف الماء و تنقشع السماء و يرحل ربيع و يأتي صيف … تسفر آلات الحصاد عن أكوام من السنابل و القمح الأصفر و جهد عام كامل من الهطول و البلل و الوحل و الفيضان و الإنفاق و تعب الفلاّحين و صبرنا جميعا على ما يُحتمل و ما لا يُحتمل… يسفر كل هذا عن أكداس مرمية في عرض الطريق، يأكل منها الطير، تذرو منها الرياح، تطأ عليها العجلات … و يتباكى معلّقو “فايسبوك” على صور الثروة المهدورة و الشقاء الذبيح …

و يخرج وزير الفلاحة معتذرا عن عجز المخازن التي امتلأت بعدُ بشحنات مستوردة طلبناها سابقا … و لا يمكن أن “نحشّم” أنفسنا مع شركائنا، و نتراجع عن شرائها …

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version